وأصلحوا ذات بينكم
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى الاختِلافِ وَتَعَدُّدِ وُجهَاتِ النَّظَرِ ، وَمِن طَبِيعَةِ البَشَرِ أَن يَتَمَسَّكَ كُلٌّ بِرَأيِهِ وَيَتَعَصَّبَ لَهُ ، إِلاَّ أَنَّ لِلشَّيطَانِ في ذَلِكَ مَدَاخِلَ لإِفسَادِ ذَاتِ البَينِ ، حَيثُ يُوَسِّعُ رُقعَةَ الاختِلافِ حَتى يَكُونَ شِقَاقًا وَنِزَاعًا ، وَيَنفُخُ في الآرَاءِ حَتى لا يَرَى أَصحَابُهَا الصَّوَابَ إِلاَّ فِيهَا ، وَمِن ثَمَّ تَتَكَوَّنُ المُشكِلاتُ بَينَ النَّاسِ ، وَتَنشَأُ في دُنيَاهُم قَضَايَا وَرَزَايَا ، مِن قَتلٍ وَإِزهَاقِ أَروَاحٍ ، وَتَعَدٍّ عَلَى الأَموَالِ وَهَتكٍ لِلأَعرَاضِ ، وَقَد تَتَجَاوَزُ الخِلافَاتُ الأَفرَادَ لِتَبلُغَ الأُسَرَ ، وَقَد تَزِيدُ فَتَصِلُ إِلى القَبَائِلِ . وَمِن ثَمَّ يَجِيءُ الإِصلاحُ بَردًا يُطفِئُ لَهِيبَ الخِلافِ ، وَعِلاجًا تُسَكَّنُ بِهِ حَرَارَةُ النِّزَاعِ ، وَسَلامًا تُدفَنُ بِهِ العَدَاوَاتُ ، فَتَجتَمِعُ القُلُوبُ وَتَأتَلِفُ الأَفئِدَةُ ، وَتَسكُنُ النُّفُوسُ وَتَزُولُ الوَحشَةُ ، وَيَذهَبُ غَلَيَانُ الغَضَبِ وَتَخمُدُ فَورَةُ التَّعَصُّبِ ، وَيَدخُلُ الرِّضَا عَلَى المُتَخَاصِمِينَ وَيَعُودُ الوِئَامُ إِلى المُتَنَازِعِينَ .
وَلَقَد جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ التَّرغِيبِ في الإِصلاحِ وَالحَثِّ عَلَيهِ ، مَا بِمِثلِهِ تَقوَى العَزَائِمُ عَلَى فِعلِ الخَيرِ ، وَتَتَشَوَّفُ النُّفُوسُ لِبَذلِ المَعرُوفِ ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ : " لا خَيرَ في كَثِيرٍ مِن نجوَاهُم إِلاَّ مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالصُّلحُ خَيرٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعلا ـ : " فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم " وَقَالَ ـ عَزَّ شَأنُهُ ـ : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُرحمُونَ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ـ : " كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ ، كُلَّ يومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ : تَعدِلُ بين الاثنَينِ صَدقَةٌ ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتحمِلُهُ عَلَيهَا أَو تَرفَعُ لَهُ عَلَيهَا مَتَاعهُ صَدقَةٌ ، وَالكَلِمَةُ الطَّيبةُ صدقَةٌ ، وَبِكُلِّ خَطوَةٍ تَمشِيهَا إِلى الصَّلاةِ صَدقَةٌ ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ " قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " إِصلاحُ ذَاتِ البَينِ " وَعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لأَبي أَيُّوبَ : " أَلا أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ " قَالَ : بَلَى . قَالَ : " صِلْ بَينَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا ، وَقَرِّبْ بَينَهُم إِذَا تَبَاعَدُوا " وَلَقَد بَلَغَ مِن مَحَبَّةِ الإِسلامِ لِلصُّلحِ أَن أَجَازَ مِن أَجلِهِ الكَذِبَ وَالتَّوَسُّعَ في الكَلامِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ـ : " لَيسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصلِحُ بَينَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيرًا أَو يَقُولُ خَيرًا " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَصلُحُ الكَذِبُ إِلاَّ في ثَلاثٍ : يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امرَأَتَهُ لِيُرضِيَهَا ، وَالكَذِبُ في الحَربِ ، وَالكَذِبُ لِيُصلِحَ بَينَ النَّاسِ " وَقَد حَرِصَ إِمَامُ الأُمَّةِ وَقَائِدُهَا وقُدوَتُهَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ عَلَى الصُّلحِ وَسَعَى فِيهِ وَبَاشَرَهُ بِنَفسِهِ ، فَعَن كَعبِ بنِ مَالِكٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أَبي حَدْرَدٍ دَينًا كَانَ لَهُ عَلَيهِ في عَهدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في المَسجِدِ ، فَارتَفَعَت أَصوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ في بَيتٍ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَيهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجفَ حُجرَتِهِ فَنَادَى كَعبَ بنَ مَالِكٍ فَقَالَ : " يَا كَعبُ " فَقَالَ : لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطرَ . فَقَالَ كَعبٌ : قَد فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " قُمْ فَاقضِهِ " وَعَن سَهلِ بنِ سَعدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ أَهلَ قُبَاءٍ اقتَتَلُوا حَتى تَرَامَوا بِالحِجَارَةِ ، فَأُخبِرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِذَلِكَ فَقَالَ : " اِذهَبُوا بِنَا نُصلِحْ بَينَهُم " وَعَنهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَلَغَهُ أَنَّ بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ كَانَ بَينَهُم شَرٌّ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُصلِحُ بَينَهُم في أُنَاسٍ مَعَهُ ... " الحَدِيثَ ، وَفِيهِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ تَأَخَّرَ مِن أَجلِ ذَلِكَ عَن صَلاةِ الجَمَاعَةِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا وَعِظَمِ مَكَانَتِهَا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الإِصلاحُ بَينَ النَّاسِ مُهِمَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَمَلٌ جَلِيلٌ ، لا يَقوَى عَلَيهِ إِلاَّ الرِّجَالُ الأَخيَارُ ، وَلا يَتَحَمَّلُهُ إِلاَّ الأَسيَادُ الأَبرَارُ ، مِمَّن شَرُفَت أَقدَارُهُم وَكَرُمَت أَخلاقُهُم ، وَطَابَت مَعَادِنُهُم وَزَكَت نُفُوسُهُم ، وَقَدِ امتَدَحَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِذَلِكَ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ فَعَن أَبي بَكرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى المِنبَرِ وَالحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إِلى جَنبِهِ وَهُوَ يُقبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيهِ أُخرَى وَيَقُولُ : " إِنَّ ابنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللهَ أَن يُصلِحَ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ مِنَ المُسلِمِينَ " وَقَد كَانَ مِن أَمرِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ كَمَا قَالَ النَّبيُّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَدَّمَ مَصَالِحَ المُسلِمِينَ العَامَّةَ عَلَى مَنفَعَةٍ خَاصَّةٍ ، وَآثَرَ البَاقِيَةَ عَلَى الفَانِيَةِ ، وَتَرَكَ الرِّئَاسَةَ وَزَهِدَ في الزَّعَامَةِ ، وَتَنَازَلَ عَنِ الخِلافَةِ لِمُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ ـ حَقنًا لِدِمَاءِ المُسلِمِينَ وَإِصلاحًا لِشَأنِهِم ، وَإِيثَارًا لِمَصلَحَةِ اجتِمَاعِهِم وَائتِلافِ قُلُوبِهِم .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : وَحِينَ يَتَرَقَّى أَصحَابُ المُرُوءَاتِ مِنَ المُصلِحِينَ الأَخيَارِ لِيَبذُلُوا مِن أوقَاتِهِم وَيَغرَمُوا مِن أَموَالِهِم وَيَصرِفُوا جَاهَهُم وَيُرِيقُوا مَاءَ وُجُوهِهِم ، فَقَد قَدَّرَ الإِسلامُ لهم مُرُوءَتَهُم وَحَفِظَ مَعرُوفَهُم ، وَلم يَنسَ لهم حُسنَاهُم وَلا جَمِيلَتَهُم ، فَجَعَلَ لهم في الزَّكَاةِ نَصِيبًا لِئَلاَّ يُجْحِفَ بهم إِصلاحُهُم وَبَذلُهُم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاء وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفي سَبِيلِ اللهِ وَابنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وَعَن قَبِيصَةَ بنِ المُخَارِقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : تَحَمَّلتُ حَمَالَةً فَأَتَيتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَسأَلُهُ فِيهَا ، فَقَالَ : " أَقِمْ حَتى تَأتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأمُرَ لَكَ بها " ثم قَالَ: " يَا قَبِيصَةُ ، إِنَّ المَسأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاثَةٍ : رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حتى يُصِيبَهَا ثم يُمسِكَ ... " الحَدِيثَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : ذَلِكُم شَيءٌ مِن فَضلِ الصُّلحِ ، وَتِلكُم جَوَانِبُ ممَّا وَرَدَ في الحَثِّ عَلَيهِ وَاهتِمَامِ الإِسلامِ بِهِ وَتَكرِيمِ أَهلِهِ ، فَأَيُّ نَفسٍ بَعدَ ذَلِكَ تَأبَاهُ وَتُعرِضُ عَنهُ ؟ أَيُّ نَفسٍ تَرفُضُهُ وَلا تَسعَى فِيهِ ؟ إِنَّهُ لا يَزهَدُ فِيهِ إِلاَّ أُنَاسٌ قَسَت قُلُوبُهُم وَفَسَدَت بَوَاطِنُهُم ، أُنَاسٌ سَاءَت مَقَاصِدُهُم وَخَبُثَت نِيَّاتُهُم ، حَتى لَكَأَنَّهُم لا يُحِبُّونَ إِلاَّ الشَّرَّ وَلا يَعِيشُونَ إِلاَّ عَلَيهِ ، وَلا يَسعَونَ إِلاَّ في الفَسَادِ وَلا يَهَشُّونَ إِلاَّ لَهُ ، وَلا يَجنَحُونَ إِلاَّ إِلى الظُّلمِ وَالبَغيِ وَالعُدوَانِ . إِنَّهُ حِينَ يُدعَى أَحَدٌ إِلى الصُّلحِ فَلا يَقبَلُهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَوعٌ مِنَ القَسوَةِ في قَلبِهِ ، وَأَمَارَةٌ عَلَى تَعَالِيهِ عَلَى الحَقِّ وَرَغبَتِهِ عَنهُ ، وَهُوَ مَا لا يَحتَمِلُهُ مُؤمِنٌ وَلا يَستَمِرُّ عَلَيهِ ذُو تَقوَى ، فَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : سَمِعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ـ صَوتَ خُصُومٍ بالبَابِ عَالِيةٍ أَصواتُهُمَا ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَستَوضِعُ الآخَرَ وَيَستَرفِقُهُ في شيءٍ وَهُوَ يَقُولُ : واللهِ لا أَفعَلُ ، فَخَرَجَ عَلَيهِمَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " أَينَ المُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لا يَفعَلُ المَعرُوفَ ؟ " فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، فَلهُ أَيُّ ذلِكَ أَحَبَّ .. وَالأَشَدُّ مِن ذَلِكَ وَالأَنكَى ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَن تَرَى فِئَاتٍ مِنَ النَّاسِ وَقَعَت مِن سُوءِ الأَخلاقِ في الحَضِيضِ ، وَرَضِيَت بِأَن تَكُونَ مِن طَبَقَاتِ المُجتَمَعِ في السُّفلِ ، فَلَم يَكتَفُوا بِالسُّكُوتِ وَالسُّكُونِ وَالإِعرَاضِ ، فَجَعَلُوا مِن أَنفُسِهِم مَصدَرًا لِلشُّرُورِ وَمَنبِتًا لِلعَدَاوَاتِ ، وَاتَّخَذُوهَا مَطَايَا لِنَقلِ الكَلامِ وَحَملِ أَسبَابِ الخِصَامِ ، وَسَمَحُوا في مَجَالِسِهِم بِتَردِيدِ الشَّائِعَاتِ وَتَلفِيقِ الأََكَاذِيبِ ، يُلهِبُونَ نَارَ الشَّحنَاءِ ، وَيُوقِدُونَ سَعِيرَ البَغضَاءِ ، كُلَّمَا خَبَت نَارُ الفِتَنِ أَوقَدُوهَا وَأَشعَلُوهَا ، فَلا غَروَ بَعدَ ذَلِكَ أَن تَضِيعَ الحُقُوقُ وَتُهدَرَ الحُرُمَاتُ ، وَلا عَجَبَ أَن يَرِقَّ الدِّينُ وَتُنزَعَ البَرَكَاتُ ، تُفسَدُ بُيُوتٌ وَتَتَفَكَّكُ أُسَرٌ ، وَتَطُولُ عَدَاوَاتٌ وَتَستَمِرُّ ثَارَاتٌ ، وَكَم مِن دِمَاءٍ تُسفَكُ وَثَرَوَاتٍ تُبَدَّدُ ، وَنُفُوسٍ تُشحَنُ وَصُدُورٍ تَضِيقُ ، وَقَد كَانَ بِالإِمكَانِ حَلُّ تِلكَ القَضَايَا وَالقَضَاءُ عَلَى تِلكَ الأَمرَاضِ ، لَو أَنَّ المُسلِمِينَ احتَسَبُوا الأَجرَ وَالثَّوَابَ ، وَسَارَعُوا إِلى الإِصلاحِ ولم يَتَبَاطَؤُوا فِيهِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَأَصلِحُوا " وَلا تُطِيعُوا أَمرَ المُسرِفِينَ . الَّذِينَ يُفسِدُونَ في الأَرضِ وَلا يُصلِحُونَ "
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في مُجتَمَعِنَا كَمَا في غَيرِهِ مُشكِلاتٌ ، وَهُنَا وَهُنَاكَ مُصلِحُونَ ، وَلَدَى النَّاسِ لِلصُّلحِ وَسَائِلُ وَأَسَالِيبُ ، وَتَرَاهُم يَسلُكُونَ مِن أَجلِهِ كَثِيرًا مِنَ الطُّرُقِ ، غَيرَ أَنَّ هَذَا العَمَلَ الصَّالحَ الجَلِيلَ ، الَّذِي كَانَ مِن تَمَامِ الدِّيَانَةِ وَرَجَاحَةِ العَقلِ أَن يُبَادَرَ بِهِ وَتُسَهَّلَ أُمُورُهُ ، اِتَّخَذَ لَدَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَسَالِكَ أُخرَى فِيهَا مِنَ التَّعقِيدِ وَالتَّأخِيرِ الشَّيءُ الكَثِيرُ ، وَقُصِدَت بِهِ مَصَالحُ ذَاتِيَّةٌ دَنِيئَةٌ ، خَارِجَةٌ عَن أَهدَافِهِ النَّبِيلَةِ وَمَقَاصِدِهِ السَّامِيَةِ ، فَجُعِلَ وَسِيلَةً لِلفَخرِ وَإِعزَازِ النَّفسِ وَإِبدَاءِ الرِّفعَةِ ، وَإِهَانَةِ الطَّرَفِ المُقَابِلِ وَإِرغَامِهِ وَإِذلالِهِ ، وَتَكلِيفِهِ مَا لا يُطِيقُ وَالإِثقَالِ عَلَيهِ بما لا يَحتَمِلُ ، وَالسُّلُوكِ بِهِ في مَسَالِكَ وَعِرَةٍ مُلتَوِيَةٍ ، وَإِدخَالِهِ سَرَادِيبَ مُظلِمَةٍ مُنتِنَةٍ ، تَفرِضُهَا عَادَاتُ قَبَلِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَتُشَجِّعُ عَلَيهَا رُسُومٌ وَقَوَانِينُ شَيطَانِيَّةٌ ، وَيَنفُخُ فِيهَا كُبَرَاءُ مُتَكَبِّرُونَ مُتَعَالُونَ ، لا يَرَونَ الصُّلحَ إِلاَّ فُرصَةً لإِبرَازِ أَنفُسِهِم عَلَى أَنَّهُم أَهلُ الحَلِّ وَالعَقدِ ، وَلا يُرِيدُونَ بِهِ إِلاَّ الظُّهُورَ أَمَامَ النَّاسِ بِمَظهَرِ الآمِرِ النَّاهِي ، وَمَا تِلكَ الخِيَامُ الَّتي تُنصَبُ وَالسُّرَادِقَاتُ الَّتي تُقَامُ ، وَالأَضوَاءُ الَّتي تُشعَلُ وَالنَّعَمُ الَّتي تُذبَحُ ، وَالبَطَرُ وَالأَشَرُ وَالإِسرَافُ ، وَالمُغَالاةُ في طَلَبِ الدِّيَةِ ، حَيثُ تَبلُغُ مَلايِينَ الرِّيَالاتِ ، وَقَد تُلحَقُ بها أَشيَاءُ عَينِيَّةٌ مِن أَسلِحَةٍ وَسَيَّارَاتٍ ، ثم إِلزَامُ أَولِيَاءِ القَاتِلِ بِالحُضُورِ بِطَرِيقَةٍ فِيهَا مِنَ الإِهَانَةِ مَا فِيهَا ، أَقُولُ : مَا كُلُّ ذَلِكَ إِلاَّ لِتَحمِيلِ أَولِيَاءِ القَاتِلِ العَنَتَ وَإِلزَامِهِمُ المَشَقَّةَ ، وَكُلُّ هَذَا خِلافُ المَقَاصِدِ الحَسَنَةِ لِلصُّلحِ في الإِسلامِ ، إِذْ إِنَّ المُبَالَغَةَ في عِوَضِ العَفوِ عَنِ القِصَاصِ ، وَجَعلَ الصُّلحِ بِطَرِيقَةٍ فِيهَا إِرغَامٌ وَإِهَانَةٌ وَإِذلالٌ ، مَا هُوَ إِلاَّ إِمعَانٌ في تَكرِيسِ العَدَاوَةِ وَإِبقَائِهَا ، وَقَطعٌ لِلمَعرُوفِ بَينَ النَّاسِ ، إِذْ لا قِيمَةَ لِعَفوٍ يَنجُو بِهِ الجَاني مِنَ القِصَاصِ ، وَتَهلِكُ بِسَبَبِهِ أُسرَتُهُ وَقَبِيلَتُهُ بِإِرَاقَةِ مَاءِ الوَجهِ عَلَى أَبوَابِ المُحسِنِينَ لأَجلِ تَوفِيرِ مَا اشتَرَطَهُ أَهلُ القَتِيلِ مِن عِوَضٍ مُبَالَغٍ فِيهِ . وَلَقَد أَحسَنَتِ الدَّولَةُ ـ وَفَّقَهَا اللهُ ـ صُنعًا ، إِذْ جَعَلَت ضَوَابِطَ لِلصُّلحِ يُقطَعُ بها دَابِرُ الجَشَعِ وَالطَّمَعِ ، وَتُحتَرَمُ بها الأَحكَامُ الشَّرعِيَّةُ ، وَتُوقِفُ مَا كَثُرَ في الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ مِن مُتَاجَرَةٍ بِالأَنفُسِ . فَمَا أَحرَى المُسلِمِينَ أَن يَلتَزِمُوا مَا حَدَّدَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن دِيَةٍ مَعلُومَةٍ ! وَمَا أَجمَلَ بهم أَن يَرفقُوا بِإِخوَانِهِم وَيَرحَمُوهُم ! وَمَا أَجدَرَهُم أَن يَعفُوا وَيَصفَحُوا ابِتَغَاءَ وَجهِ اللهِ وَطَلَبًا لما عِندَهُ مِنَ الأَجرِ ، لا طَلَبًا لِلفَخرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمعَةِ ! وَإِنَّهُ مَتى التَزَمَ المُسلِمُونَ بِتَخفِيفِ مَا يَطلُبُونَهُ مُقَابِلَ العَفوِ عَمَّن استَوجَبَ القِصَاصَ ، فَستَسهُلُ إِجرَاءَاتُ العَفوِ ، إِذْ يَخِفُّ الحِملُ عَن كَاهِلِ مُحِبِّي الخَيرِ مِنَ الأَغنِيَاءِ الَّذِينَ يَدفَعُونَ هَذِهِ الأَموَالَ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ ، فَيُبَادِرُونَ إِلَيهَا وَلا يَتَأَخَّرُونَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الإِصلاحَ عَزِيمَةٌ رَاشِدَةٌ وَنِيَّةٌ خَيِّرَةٌ ، وَإِرَادَةٌ مُصلِحَةٌ وَابتِغَاءُ ثَوَابٍ ، وَحَقنُ دَمٍ وَقَطعُ عَدَاوَاتٍ ، يَقُومُ بِهِ لَبِيبٌ عَاقِلٌ مُتَّزِنٌ ، مُخلِصٌ للهِ طَالِبٌ مَا عِندَهُ مِنَ الأَجرِ ، يَسُرُّهُ أَن يَسُودَ الوِئَامُ بَينَ النَّاسِ ، لا تَدفَعُهُ أَهوَاءٌ شَخصِيَّةٌ ، وَلا يَرتَقِبُ مَنَافِعَ دُنيَوِيَّةً ، لا يَقصِدُ بِإِصلاحِهِ التَّرَؤُّسَ وَالرِّيَاءَ وَارتِفَاعَ الذِّكرِ وَالاستِعلاءِ ، وَإِنَّمَا هَمُّهُ مَرضَاةُ اللهِ وَإِصلاحُ ذَاتِ البَينِ " وَمَن يَفعَلْ ذلِكَ ابتَغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاحرِصُوا عَلَى الصُّلحِ بَينَ المُتَخَاصِمِينَ ، وَاحذَرُوا كُلَّ مَا خَالَفَ الشَّرعَ المُطَهَّرَ مِنَ العَادَاتِ ، فَقَد جَاءَ في الحَدِيثِ مَرفُوعًا : " الصُّلحُ جَائِزٌ بَينَ المُسلِمِينَ ، إِلاَّ صُلحًا حَرَّمَ حَلالاً أَو أَحَلَّ حَرَامًا"