الأسواق العربية
الأسواق العربية في الدولة الأمويةلعبت الأسواق دورًا كبيرًا في حياة الدولة الإسلامية سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، فكانت الأسواق مركزًا للبيع والشراء، وبها تعقد الصفقات وتقر حالة البلاد الاقتصادية؛ إذ إن السوق أبرز ميادين تصريف الإنتاج الزراعي والصناعي.
كما أثَّرت السوق في الحالة الاجتماعية، ففيها يلتقي المسلمون وغيرهم بعضهم ببعض؛ فيتعارفون ويتحادثون، وفيها اختلطت عناصر السكان المختلفة من عرب وأعاجم ومسلمين وأهل ذمة، وكان السوق مركزًا من مراكز الحياة السياسية ففيها تلاقى الناس تحت ستار التجارة بعيدًا عن عيون رقباء الولاة والحكام، فدبروا المؤامرات وحاكوا خيوط الفتن.
كما عرف العرب كثيرًا من الأسواق في الجاهلية والإسلام، وكلنا نعرف ما كان لسوق عكاظ من شهرة داوية فقد كان مكانًا مختارًا للتجارة والأدب؛ ولذا حرص العرب بعد انتهاء الفتوحات العربية الإسلامية على إنشاء الأسواق في الأمصار المفتوحة فزاد العمران، واتسعت المدن وأصبحت الأسواق بجانب أغراضها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مكانًا لمفاخرات الشعراء، ومجالس الخطباء كما كان الحال في مربد البصرة وكناسة الكوفة وغيرهما.
وبما أن الأسواق هي مركز التجارة فنجد أن الخلفاء الأمويين وولاتهم عُنُوا بها عنايةً فائقةً، فعلى الرغم من انشغال الخلفاء الأمويين بالفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام إلا أن ذلك لم يصرفهم عن الاهتمام بالأسواق وتنظيمها.
الأسواق في الخلافة الأموية
لقد اهتمت حكومة الخلافة الأموية ببناء الأسواق في المدن التي أنشئت في ذلك العصر مثل: القيروان وتونس وواسط والمنصورة والرصافة وغيرها، وبدأ تخطيط هذه الأسواق وتصنيفها في هذا العصر، ولنأخذ على سبيل المثال مدينة واسط، فقد أنشأ الحجاج بن يوسف مدينة واسط ما بين أعوام 83هـ حتى 86هـ -على أرجح الأقوال- في مكان يتوسط بين الكوفة والبصرة والأهواز وبلاد الجبل، ثم التفت الحجاج إلى من يقيم المرافق المختلفة في هذه المدينة، ويقوم بما يلزم من الخدمات، فأنزل فيها أصحاب الطعام (أصحاب الحبوب)، والبزازين (بائعي الأقمشة) والصيارفة والبقالين والعطارين والقصَّابين وأصحاب السقط (بائعي الكوارع)، وأصحاب الفاكهة والخرازين والعمال وأصحاب الحرف والصناع وأمثالهم، وجعل لكل تجارة قطعة لا يخالطهم غيرهم، وجعل مع أهل كل قطعة صيرفيًّا.
كما عينت الدولة الأموية المشرفين على هذه الأسواق، وكان الواحد منهم يعرف باسم "المحتسب" وكان يعرف أيام الراشدين بـ (عامل السوق)، وقد اختيروا من أهل العدالة والمهابة والصرامة والخشونة في الدين والعفة عن أموال الناس، والمعرفة بالمنكرات الظاهرة والعلم بأحكام الشريعة، وكان يدخل في نطاق عملهم مراقبة العبادات من صلاة الجمعة وصلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان وصيام رمضان، والمعاملات من التجارة وما يتصل بها من الموازين والمكاييل والنقود، وما يدخل فيها من الغش والبيوع الفاسدة والتدليس، ومراقبة الأطعمة والأشربة ومحلات تحضيرها وبيعها، والملابس والثياب والأقمشة، ومحلات الصياغة والصرافة، ونظام المرور، ومنع المضايقة والتعدي على الطرق والفنادق والحمامات، وغير ذلك مما يتصل بالمعايش والمصالح العامة للناس في المدينة، فكانوا يأمرون بالمعروف إذا ظهر تركه وينهون عن المنكر إذا ظهر فعله، ويأخذ الناس بذلك ومن ذكر في القيام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واسط إياس بن معاوية (ت 121هـ)، والعوام بن حوشب بن يزيد الشيباني (ت 148هـ).
وكان من مظاهر اهتمام الدولة بالأسواق توسيع رقعتها وإعادة بناء ما يهدم منها، وبناء المحلات التجارية وتأجيرها، فبنى معاوية بن أبي سفيان بناءين في سوق مدينة الرسول وضرب عليهما الخراج أي الأجرة، وحينما بنيت مدينة واسط وضع على كل حانوت غلة، وبنى عبد العزيز بن مروان القيساريات في الفسطاط، وبنى هشام بن عبد الملك الأسواق في المدن الإسلامية المختلفة، وضع عليها الكراء، وجعل ما بناه في مدينة الرسول يتألف من طابقين: حوانيت من أسفلها تكرى للتجارة وعلالي تكرى للسكن، وأحدث الأسواق المغطاة، وكان خالد بن عبد الله القسري أول من بنى الأسواق وسقَّفَها في الكوفة، وجعل سقوفها أزجًا معقودة بالآجر والجص، وقد وفَّر بناء الأسواق وتأجيرها موردًا ماليًّا يُدِرُّ ريعًا ثابتًا على الدولة.
لقد أسهم بناء المدن في العصر الأموي في تنشيط الحياة الاقتصادية، فوجود المحال والأسواق التجارية في المدن، وإنشاء المرافق المختلفة فيها لتقديم وتأمين الخدمات للناس من أهلها والوافدين عليها فتح باب العمل فيها، وجذب الأيدي العاملة إليها، ووجد أهل الريف من حول هذه المدن مجالاً لتصريف وبيع إنتاجهم الزراعي فيها، ونشطوا في زراعتهم لتلبية حاجاتها من المواد الغذائية والتموينية، ونشطت تبعًا لذلك حركة التجارة الداخلية.
واهتمت الدولة بالتجارة الخارجية أيضًا، وكان ما عمله عبد الرحمن بن حبيب الفهري مثالاً على ذلك، فقد اعتنى هذا الوالي بطريق القوافل الممتدة بين جنوب مراكش وأودفست، وحفر عدة آبار ماء جديدة لتيسير وصول القوافل إلى أرض السودان الغربي من قارة أفريقيا للحصول على الذهب والموارد الأخرى، ونشر الإسلام واللغة العربية في تلك البلاد، ولم يكن اهتمام الدولة بالطرق التجارية التي كانت تصل دار الإسلام ببلاد آسيا وأوربا بأقل من ذلك، فقد بسطت رعايتها وحمايتها على التجار جميعًا.
وفي خاتمة الحديث الموجز لا بد من الإشارة إلى أن العلاقة بين الدولة والقوى المنتجة الممثلة في الفلاحين والتجار والصناع وأمثالهم، لم تكن حسنة على الدوام.
رغم ما قد تتركه قراءة الإنجازات الآنفة الذكر في ذهن القارئ من صورة حسنة لهذه العلاقة، فمحاولات القوى المنتجة للتخلص من التزاماتها وواجباتها المالية مع حرص الدولة على استيفاء الأموال المستحقة عليهم واللازمة لاستمرار رعايتها وقوامتها، دفع الدولة إلى انتهاج الشدة في التعامل مع هذه الأطراف لمعالجة الموقف؛ مما أدى إلى اهتزاز العلاقة بين الجانبين في كل مرة اتبعت الدولة الشدة في استيفاء الأموال المستحقة لها عليهم.