نشطت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك بعد حالة الاستقرار التي عاشتها أيام سلفه الخليفة عمر بن عبد العزيز، والذي لجأ لذلك في شيء من التوازن من أجل التفرغ لحركة الإصلاح الكبرى التي شهدها عهده، وكانت حركة الفتوح على الجبهات كالتالي:
1- الفتوحات في بلاد ما وراء النهر:
أوقف عمر بن عبد العزيز حركة الفتوحات في بلاد ما وراء النهر، وكان الباعث على هذه السياسة هو نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة بدلاً من الجهاد الحربي، ومع ما لهذه السياسة من إيجابيات كإسلام بعض ملوك وأهالي هذه المناطق، إلا أنها أطمعت آخرين في المسلمين، وحفزتهم على التمرد وشق عصا الطاعة، فقد تمرد الصغد على سلطان المسلمين، وهاجم الترك البلاد وعاونوا الصغد منذ أيام عمر بن عبد العزيز خلال ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي (100- 102هـ)، وظلت مستعرة الأوار حتى ولاية سعيد بن عبد العزيز الحرشي (102- 103هـ) الذي تولى خراسان من قِبَلِ الخليفة يزيد بن عبد الملك الذي كان عليه إخماد ذلك التمرد. وبعد سلسلة من المعارك خاضها سعيد بن عبد العزيز إبان حملته على ما وراء النهر ما بين عامي (103- 104هـ)، قضى على حركات التمرد من جانب الصغد والترك، وأعادهم إلى الاعة صلحًا أو عنوة، وبذلك استعاد المسلمون سيطرتهم التامة على تلك المنطقة من جديد.
ولم يدم للمسلمين ما حققه سعيد الحرشي من تمكن وسيادة فيما وراء النهر؛ فقد تحول المسلمون من دور الهجوم إلى الدفاع في ولاية مسلم بن سعيد الكلابي على خُراسان (104- 106هـ)، فقد غزا الأخير الترك فيما وراء النهر سنة 105هـ فلم يفتح شيئًا وعاد أدراجه، بل إن الترك تعقبوه فلحقوا به، وهو يعبر نهر جيحون بجنده.
وقد كانت هذه الحملة آخر الغزو وفي عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك وهي في ظاهرها حملة ناجحة، وإن لم تحقق مكاسب جديدة، إلا أن لحاق الترك بمسلم وتعقبه كان فيه دلالة على طمع الترك بهم، وبداية لضعف سيطرة المسلمين على ما وراء النهر، وعودة الاضطراب إليها.
2- الفتوح في أرمينية:
استؤنفت الحملات العسكرية المنظمة إلى الثغور في عهد يزيد بن عبد الملك، وقد أشار الطبري وغيره إلى إغارة قام بها الترك سنة 103هـ على اللان، ومنها يتبين عوده الخزر إلى التحرش بالمسلمين ومهاجمة ممالكهم في أرمينية، وهذا ما دفع أمير أرمينية -آنذاك- معلق بن صفار البهراني إلى القيام بحملة على الخزر.
فلقيهم بمرج الحجارة في رمضان في نفس العام ولكنه هزم، مما أطمع الأقوام القوقازية والتركية في المسلمين؛ فاندفعوا نحو الحدود الأرمينية وشنوا غاراتهم وتوغلوا في البلاد؛ مما دعا الخليفة يزيد بن عبد الملك إلى استعمال الجراح بن عبد الله الحكمي على أرمينية وأذربيجان سنة 104هـ، وأسند إليه مهمة صد الخزر، وأَمْرَ حربهم، وأمده بجيش كبير، وأمره بحرب الأعداء وقصد بلادهم وما أن سمع الخزر بمقدم الجراح حتى ارتدوا عن البلاد الإسلامية التي كانوا قد استولوا عليها، وانسحبوا عائدين حتى نزلوا مدينة باب الأبواب وعندما وصل الجراح إلى مدينة باب الأبواب وجدها خالية؛ فبث سراياه على ما يجاوره من البلاد فنصروا وغنموا.
ويبدو أن ما حققه المسلمون من نصر ومغانم أثار الخزر فتوجهوا إلى الجراح في أربعين ألفًا بقيادة ابن ملكهم ويدعي (نارستيك) ابن خاقان، أما المسلمون فكانوا خمسة وعشرين ألفًا بقيادة الجراح والتقى الفريقان على نهر الران سنة 104هـ بعد معركة عظيمة نصر الله المسلمين وهزم الخزر، وتم إخضاع تلك المناطق لحكم المسلمين وسيادتهم.
كما فتح الجراح حصن (بلنجر) سنة 104هـ عنوة، وأصاب المسلمون غنائم عظيمة أصاب الفارس منها ثلاثمائة دينار، أما صاحب بلنجر فقد تمكن من الفرار مع خمسين من قومه، فبعث الجراح إليه بالأمان ورد إليه حصنه وأهله وأمواله ليكون صنيعة للمسلمين وعينًا لهم على أعدائهم، ثم واصل الجراح فتوحاته، وتوجه إلى حصن (الوبندر) وصالح أهله ثم رجع بجيشه إلى (شكى) بعد سماع أخبار من صاحب (بلنجر) تتعلق باجتماع الخزر لحربه، وبعد نزوله (شكى) كتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك بما فتح الله على يديه، ذاكرًا له اجتماع الخزر لحربه كما سأله المدد إليه، وبعد مجيء هشام بن عبد الملك حرص على إكمال ما بدأه سلفه، فأقرَّ الجراح على ولاية أرمينية، وأمده بما يمكِّنه من صيانة الثغور، ودفع الأعداء عن ديار الإسلام.
3- الفتوح في أرض الروم:
تمثلت الجهود العسكرية -التي نمت في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك ضد الروم- في تحصين الثغور وشحنها وصيانة الحدود والدفاع عنها، والفتح برًّا عن طريق الصوائف والشواتي، وما تم خلال ذلك من فتوحات في آسيا الصغرى، والغزو بحرًا لجزر الحوض الأوسط والغربي من البحر المتوسط عن طريق إفريقية -وقد كان عهد يزيد بن عبد الملك خاليًا من الحملات العسكرية الكبرى ضد البيزنطيين- وفي معاودة التفكير في فتح القسطنطينية عاصمتهم العتيقة، وإن كانت الصوائف والشواتي التي وُجِّهَت لآسيا الصغرى قد حفلت بكثير من الانتصارات، وفتح كثير من المدن والمواقع الرومانية.
4- الجهاد في البحر المتوسط:
تابع ولاة إفريقية من قبل الخليفة يزيد بن عبد الملك جهود من سبقهم من أمراء الشمال الأفريقي، فقد قام يزيد بن أبي مسلم أمير إفريقية (101- 102هـ) بغزو جزيرة صقلية سنة 101هـ، كما وجه مِن قِبَلِه سنة 102هـ محمد بن أوس الأنصاري في غزوة بحرية إلى صقلية، فعادت الحملة سالمة غانمة، وكان سبب تركيز أمير إفريقية على صقلية لأهميتها بالنسبة للروم، وهي محاولة لضرب تلك القاعدة البيزنطية المهمة، وتهديدًا للأعداء وإشغالهم عن مهاجمة الساحل الإفريقي، وأما ولاية بشير بن صفوان على إفريقية (102- 109هـ) فقد كانت حافلة بالغزوات البحرية على جزر سردينية وكورسيكا وصقلية.
ومن غزواته في خلافة يزيد بن عبد الملك الحملة التي وجهها بقيادة يزيد بن مسروق اليحصبي إلى جزيرة سردينية سنة 103هـ، فكان نصيبها النجاح حيث غنم المسلمون وسلموا.
5- الفتوح في بلاد الغال:
بلاد الغال: تعني عند العرب الأرض الواقعة بين جبال البرتات (البرينة) وجبال الألب والأوقيانوس، ونهر ألبا وملكة الروم، وهذا المفهوم ينطبق على فرنسا أيام شارلمان، وأممها تتحدث بعدة لغات.
شهد عصر الخليفة يزيد بن عبد الملك حملة من أهم الحملات التي قام بها المسلمون لفتح بلاد الغال عن طريق الأندلس، وهي الغزوة التي قادها السمح بن مالك الخولاني (101- 102هـ) إلى تلك الأصقاع.
وفي معركة غير متكافئة حيث بلغ جيش الفرنج عشرة أضعاف جيش المسلمين، أبدى فيها المسلمون من ضروب الشجاعة والإقدام ما لا يتصوره عقل، استُشهِد السَّمْح بن مالك سنة 102هـ في معركة (طولوشة)، فأُسْنِدَتْ قيادة الجيش إلى أحد كبار الجند وهو (عبد الرحمن الغافقي)، الذي نجح في الانسحاب بالجيش في مهارة حرمت الفرنج من تعقب المسلمين وإصابتهم في حالة التقهقر حتى وصل (أربونة).
استمر عبد الرحمن الغافقي أميرًا للأندلس بتقديم أهل الأندلس له منذ استشهاد أميرهم السمح بن مالك الخولاني حتى قدوم عنبسة بن سحيم الكلبي أميرًا للأندلس من قبل بشر بن صفوان عامل الخليفة يزيد بن عبد الملك على إفريقية والمغرب، وذلك في سنة 103هـ، وكان عنبسة من طراز السمح بن مالك رجلاً تقيًّا وإداريًّا بارعًا وعسكريًّا فذًّا، وكان حريصًا على الإسلام وأمينًا على دولته، فكان خير خلف لخير سلف. لقد شغل الأمير الجديد صدر ولايته بضبط الأمور في الأندلس، وإخماد الفتن فيها، ومن ذلك توجهه إلى المنطقة الشمالية في الأندلس للقضاء على حركة (بلاي) وإخماد التمرد الذي قام به (أخيلا بن غطيشة) في مدينة طركونة حتى استقام له أمرها، ثم أعد نفسه للجهاد وباشر الفتح فيما وراء البرتات بنفس، وكان بداية ذلك سنة 105هـ، وهو ما أخذ به أكثر المؤرخين، وبذلك يكون الإعداد والتجهيز لهذه الحملة قد تم في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وقد يكون خروجها قد تم في أواخر زمنه -أيضًا- أما ما تم على يد عنبسة من فتوحات في بلاد الغال، فإن ذلك قد حدث في خلافة هشام بن عبد الملك.
وفاة يزيد بن عبد الملك:
قيل إن يزيد مرض بالسل ومات يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة 105هـ بسواد الأردن، وقيل: إنه مات بالجولان، وقيل: بحوران، وصلَّى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وقيل: صلَّى عليه أخوه هشام بن عبد الملك وهو الخليفة من بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دُفِنَ بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد عهد بالأمر من بعده لأخيه هشام ومن بعده لولده.