تعني الذمة في اللغة: العهد والأمان والضمان، وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين، وسموا بهذا الاسم لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم؛ فإن تعاليم الإسلام كانت تقضي بأنه إذا أراد المسلمون فتح إقليم وجب عليهم أن يطلبوا من أهله اعتناق الإسلام، فمن استجاب منهم طُبِّقت عليه أحكام المسلمين، ومن امتنع أُخذت منه الجزية.
وعندما فتح المسلمون الأمصار رَحَّب بهم أهل الذمة، فقد أملوا في الخلاص من الانقسامات الدينية والمذهبية، والخلاص من ظلم حكامهم، والإعفاء من الخدمة العسكرية، والتمتع بالحرية الدينية التي يسمح بها الإسلام مقابل دفع الجزية، وكان ترحيب أهل الذمة عاملاً على نشر الإسلام، فقد دعا المسلمون أهل الذمة إلى الإسلام، وأعلنوا أن المحارب إذا أسلم سيصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم؛ ولذا دخل في الإسلام جموع هائلة من أهل الذمة، واعتقد بعضهم أن توفيق المسلمين في الفتوح هو مظهر من مظاهر رضاء الله عليهم ودليل على صدق دينهم، وأما من بقي من أهل الذمة على دينه، فقد عاملهم المسلمون بتسامح عظيم باعتبارهم أهل كتاب، وكانت كتب الصلح صورة صفية لتسامح المسلمين. وكان على أهل الذمة طوال عهد الخلفاء الراشدين والأمويين واجبات، ولهم في مقابلها حقوق.
واجبات أهل الذمة
كان على أهل الذمة أن يدفعوا الجزية على الموسر 48 درهمًا، وعلى متوسط الحال 24 درهمًا، وعلى الفقير 12 درهمًا مع تقديم الزيت والخلِّ والطعام اللازم للمسلمين، وكان يُشترط على أهل الذمة في عقد الجزية شرطان: أحدهما مستحَق، والآخر مستحب، ويشمل الشرط المستحق ستة أمور يجب على أهل الذمة تحقيقها، فيجب عليهم احترام القرآن والرسول ، وعدم القدح في الإسلام، وألا يصيبوا مسلمًا بزنا ولا بنكاح، وألا يحولوا مسلمًا عن دينه، وألاَّ يعينوا أهل الحرب.
أما الشرط المستحب فيشمل -أيضًا- أمورًا ستة، فعليهم لبس الغيار وشد الزنار، وأن تكون مبانيهم أقل ارتفاعًا من مباني المسلمين، وألاَّ يُسمِعوا المسلمين أصوات نواقيسهم وتلاوة كتبهم، وعدم المجاهرة بشرب الخمر أو إظهار الصُّلبان والخنازير، وإخفاء دفن الموتى وعدم النَّوْح عليهم، وعدم ركوب الخيل مع السماح بركوب البغال والحمير، وكان على أهل الذمة ألاَّ يحدثوا بيعة أو كنيسة، ولكن يجوز بناء ما تهدم من بيعهم وكنائسهم القديمة، كما كان على فلاحي أهل الذمة العناية بالطرق والجسور والأسواق والإرشاد وضيافة أبناء السبيل.
حقوق أهل الذمة
حقوق أهل الذمةأما حقوق أهل الذمة فهي الكفُّ عنهم والحماية لهم ولأهل العهد والأمان على نفوسهم وأموالهم، وفي الحقيقة كانت معاملة المسلمين لأهل الذمة تنم عن تسامح وعطف وكرم فقد كان أهل الذمة لا يدفعون سوى عُشر التجارة والجزية بينما هم مُعفون من الصدقات، وكانت الجزية مقابل ما يدفعه المسلم من صدقة، وأُعفي الصبيان والنساء والمساكين وذوو العاهات والرهبان، وكثيرًا ما نقض بعض أهل الذمة ما شرطه المسلمون عليهم، فكان المسلمون لا يقتلونهم أو يغنموا أموالهم أو يَسْبُوا ذرياتهم بل كانوا يكتفون بطردهم من بلاد المسلمين، وعاش المسلمون مع أهل الذمة جنبًا إلى جنب، فقد اشتركوا مع المسلمين في تخطيط المدن الإسلامية الجديدة، وعاشوا جميعًا في سلام.
المسلمون والمجوس
أما عن معاملة المسلمين للمجوس فقد اختلف المسلمون في اعتبار المجوس أهل كتاب، فالماوردي يذكر أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى وكتابهم التوراة والإنجيل، ويجري المجوس مجراهم في أخذ الجزية منهم، وإن حُرِّمَ أكلُ ذبائحهم ونكاح نسائهم، وتُؤخَذ من الصائبة والسامرة إذا وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم. ويؤكد البلاذري أن المجوس من أهل الكتاب، أما أبو يوسف فيروي أن الرسول وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- أخذوا الجزية من المجوس.
ومن الثابت تاريخيًّا أن الرسول صالح مجوس هجر على أن يأخذ منهم الجزية، وإن لم يستحل مناكحة نسائهم ولا أكل ذبائحهم، وظل الولاة الأمويون يجمعون الجزية من المجوس مثل سائر أهل الذمة، فأبو يوسف (صاحب كتاب الخراج) حفظ لنا خبر أخذ عدي بن أرطأة عامل عمر بن عبد العزيز في العراق الجزية من المجوس.
التسامح والرحمة
وجد أهل الذمة من مصلحتهم تعلّم اللغة العربية، وكان تسامح المسلمين مع أهل الذمة سببًا في إقبالهم على تعلم لغتهم، والعمل بالنظم العربية حتى أصبحت اللغة العربية بمرور الوقت لغة معظم المسيحين، أما مجوس العراق وفارس فكانوا يتحدثون باللغة الفهلوية، وحرص المجوس عند إسلامهم على تغيير أسمائهم إلى أسماء عربية، وعلى تعلم اللغة العربية، وتمتع أهل الذمة في العصر الراشدي والعصر الأموي منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان إلى عصر عبد الملك بن مروان بالحرية الدينية والتسامح الديني.
ولكن أهل الذمة في العراق في عصر الحجاج بن يوسف والي عبد الملك بن مروان عانوا بعض الشيء من سياسته، فقد ظنَّ أهل الذمة أن إسلامهم سيخلِّصُهم من دفع الجزية، فأقبلوا على الإسلام وخرجوا من قراهم إلى مدن العراق، ولكنَّ الحجاج ختم أسماء قراهم على أيديهم وأعادهم بالقوة، ووضع عبد الملك ضرائب استثنائية على أهل الذمة، وجعل الجزية في الجزيرة هي الزائد عن دخل أهل الذمة. حاول أهل الذمة الفرار من الجزية فترهبنوا لعلمهم بإعفاء الرهبان، ولكن الحجَّاج فرض الجزية على جميع الرهبان، كما كان يشتد على أهل الذمة إذا ما تأخروا في وضع الجزية، وقام الحجاج بإقصاء العمال الذميين من وظائف الدولة بالعراق.
وهذا لا يعد دليلاً على أن المسلمين أساءوا معاملة أهل الذمة في العصر الأموي، فالثابت تاريخيًّا أن أهل الذمة تمتعوا بالحرية الدينية تمامًا، فضلاً عن حسن المعاملة؛ فقد كان التسامح شعار الإسلام ولم يكن الفتح الإسلامي حربًا صليبية، ويدلل (أرنولد) على تسامح المسلمين برسالة لأحد رجال الكنيسة وهو البطريق النسطورى (يشوع باف الثالث) فقد تضمنت هذه الرسالة الدليل القاطع على طابع الهدوء والمسالمة التي اتبعها المسلمون في نشر الإسلام: فقد احترم المسلمون عقائد أهل الذمة وعاداتهم وعرفهم مقابل جزية زهيدة تقل عما كانوا يدفعونه إلى ساداتهم السابقين الفرس من الضرائب، ولم يطبق المسلمون على أهل الذمة ما كانوا يوقعونه على المسلمين من عقوبات لشربهم الخمر. ويمتدح (جوزي) بني أمية؛ لأنهم ساووا بين طبقات الفرس، وعاملوا أهل الذمة بالحسنى.
وقد افتتح معاوية بن أبي سفيان عهدًا جديدًا من التسامح مع أهل الذمة؛ حيث عين لولده يزيد مربيا مسيحيًّا، كما كلّف يزيد بن معاوية كاهنًا مسيحيًّا بتثقيف ولده خالد، وعامل المختار بن أبي عبيد الثقفي أهلَ الذمة معاملة حسنة، أما الحجاج الذي اتهمه المؤرخون باضطهاد أهل الذمة فقد كان عامله بخراسان يبني لأهل الذمة البِيَع، وقد سمح له الحجاج بذلك، وكان الأخطل الشاعر المسيحي يحظى باحترام جميع المسلمين.
كما تمتع أهل الذمة في عهد عمر بن عبد العزيز بكثير من عدله ورحمته؛ فقد أمر عماله بألاَّ يهدموا كنيسة أو بيعة أو بيت نار صُولح أهلُ الذمة عليه، كما نهى عمر بن عبد العزيز عامله على الكوفة عن اتباع سياسة الحجاج التي تقضى بإرجاع أهل الذمة إلى قراهم. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة -أيضًا- أن يعطي أهل الذمة ما بقي من خراج الكوفة فيسدد ديونهم، ويساعد من أراد الزواج منهم، ثم ختم رسالته بقوله: "قووا أهل الذمة؛ فإننا لا نريدهم لسنة أو سنتين". وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يجعل صدقات بني تغلب -القبيلة المسيحية- في فقرائهم دون ضمها إلى بيت المال.
لقد تمتع أهل الذمة في الخلافة الأموية بنصيب كبير من الوظائف، حيث احتلوا مكانة بارزة من حياة الخلافة الأموية، وكثُر عددُهم في الدواوين والمصالح، وزاد (بارتولد) عليه بأن النصارى والفرس كانوا يقومون ببناء المساجد والقصور.