خرجت الخلافة الإسلامية في العصر الأموي عن بساطتها بعد أن انتهت مرحلة الفتوحات الإسلامية، حيث أصبحت الخلافة تضم أمصارًا كثيرة كانت تتبع الدولتين الرومانية والفارسية، وتدرَّج الخلفاء والأمراء في مظاهر السلطان واتخاذ الحجَّاب، وبدأ بذلك معاوية بن أبي سفيان، تبعًا لظروف ومستجدات ارتآها: كالجواسيس الذين يهددون أمنه وأمن دولته، وحذا أمراؤه حذوه في العراق ومصر، وزادوا عليه أن اقتبسوا كثيرًا مما كان يتبعه أكاسرة الفرس وقياصرة الروم، وقد اتبعوا هذه السياسة تعزيزًا للمُلْكِ، وإدخالاً للرهبة في قلوب الأعداء ورسلهم، وأصبح الخليفة لا يصل إليه أصحاب المصالح والناس إلا بعد شيء من العناء، وبعد أن يمر على حُجَّاب وحرس مما لم يكن موجودًا مثله في عهد الخلفاء الراشدين.
وقد اختلفت مجالس الخلفاء الأمويين الاجتماعية باختلاف شخصياتهم وميولهم؛ فلقد كان الأمويون الأُوَّل حكامًا نشطاء أَكْفَاء خصصوا شطرًا كبيرًا من يومهم للأعمال الإدارية، وعلى حين قضوا الأمسيات والليالي في السمر، ثم إنهم عشقوا في باديء الأمر سماع القصص التاريخية، وفضلوا منها بصفة خاصة أساطير الجنوب، هذا فضلاً عن إنشاد الشعر.
وفي العصر الأموي جلس الخلفاء في القصور بعد أن كان عمر بن الخطاب يجلس للناس في المسجد، كما استعملوا بعض القصور الرومانية، وبنوا لأنفسهم بعض القصور الخاصة بهم، فقد بنى معاوية قصر الخضرة في دمشق، ونَصَبَ الخلفاء الأمويون في هذه القصور الأَسِرَّة والكراسي، وافترشوا الطنافس والمصليات والوسائد وعلقوا الستور، وأقاموا الحجاب والحراس.
وكان معاوية أول من اتخذ الأَسِرَّة قَّلد بها بطارقة الروم في الشام، وكذلك الستور والطنافس، أما الكراسي فكان أول من استخدمها زياد بن أبيه والي معاوية على العراق، واقتبس الأمويون من الروم والفرس مظاهر الأبهة كالطراز، ونقش الأشعار في صدور المجالس، وفرش الديباج والخز، واصطناع الأسِرَّة من الأبنوس والعاج والذهب.
الاستئذان على الخليفة
كان الاستئذان على الخليفة في عصر الراشدين أن يقف الرجل بالباب ويقول: "السلام عليكم، أأدخل؟" ويكرر ذلك ثلاثًا، فإن لم يُؤْذَن له لم يُعِدْه. فلما كان العصر الأموي أقيم الآذنون والحجَّاب يتوسطون للناس بدخولهم على الخليفة حسب طبقاتهم، وفي أوقات معينة، لكل طبقة من الجلساء، أو الأدباء، أو الشعراء، أو غيرهم، أمَّا في المجالس العامة فيقدمون الناس حسب مراتبهم.
وأول من رتب المراتب في الدخول على الخليفة زياد بن أبيه والي العراق؛ فقد أشار حاجبه عليه بذلك، وقد اقتبس هذا النظام عن الفرس، فجعل الإذن للناس على البيوتات ثم على الأعمار ثم على الآداب، وصار ذلك سُنَّة في الاستئذان على الخلفاء الأمويين، فإذا استأذن جماعة في الدخول على الخليفة أو الأمير يُؤذَن أولاً لأشرفهم نسبًا، فإذا تساووا في النسب قدموا أكبرهم سنًّا، فإذا تساووا في السن قدموا أكثرهم أدبًا.
وإذا وفد ناس على الخليفة الأموي أو أحد أمرائه، وقفوا بابه يلتمسون الإذن، فإما أن يأذن لهم أو يصرفهم، فإذا صرفهم عادوا ثانية في المواضع اللائقة بهم وبمراتبهم، ويتولى إجلاسهم الحاجب أو الآذِن، وكانت الرتبة الأولى بعد الخليفة الأموي لبني أمية، فيجلسون على الأسرة، ثم لبني هاشم فيجلسون على الكراسي.
وفي مطلع العصر الأموي، كان الخليفة لا يزال يشبه شيخ القبيلة فكان الناس يخاطبون الخليفة في هذا العهد باسمه أو كنيته، ولكن سرعان ما تشبهت الدولة الأموية بالدولة الرومانية والفارسية ببعض مراسمها، فبدأ الولاة الأمويون يعظمون أمر الخليفة وينزهون مجلسه عن مجالس سائر الناس، واقتبس زياد بن أبيه الكثير من تقاليد الفرس؛ فمنعهم من الكلام في حضرة الخلفاء على الإطلاق، واتبع عبد الملك بن مروان هذه القاعدة أيضًا، ثم عمد الخلفاء بعد ذلك فمنعوا أن يخاطبهم الناس كما كانوا يخاطبون أسلافهم، أو يعظوهم وهم على المنابر.
ومن آداب المجالس أن لا يأمر فيه أحد غير الخليفة، وإذا نهض نهض سائر الحضور، وإذا أراد الخليفة صرف جلسائه أبدى إشارة يعرفونها فينصرفون فكان معاوية إذا أراد صرف الناس قال: "إذا شئتم"، أو "العزة لله"، وكان ابنه يزيد يصرف جلساءه بقوله: "على بركة الله". أما عبد الملك بن مروان فكان يحمل في يده خيزرانة، فإذا ألقاها من يده عرف جلساؤه أنه يريد انصرافهم، فينصرفون.
مجالس الولاة الأمويين
كان زياد بن أبيه والي معاوية على العراق يعقد كثيرًا من مجالس السمر؛ فكان يجمع حوله حلقة من النبلاء كل مساء، وسار زياد على سيرة معاوية في الجلوس على السرير والناس تحته، وإقامة الحرس والشرط والبوابين، وكان في اتخاذه مقلدًا لمرازبة الفرس، وكان السرير يصنع من الأبنوس والصندل أو العاج، وكان عبارة عن مقعد أو كرسي كبير، وكان زياد يشتو بالبصرة ويصيف بالكوفة، ويحضر وجوه المصرين مجالسه؛ فيدخلون عليه على السابقة والشرف، ويسمرون عنده جالسين على الكراسي، وكان يتناول الطعام معهم، وكان زياد جادًّا في مجالسه؛ فكان لا يداعب أحدًا في مجلسه ولا يضحك.
وسار عبيد الله بن زياد سيرة أبيه في عقد المجالس، ولعل أبهى مجالس الولاة الأمويين هي مجالس بشر بن مروان فقد كان أديبًا ظريفًا يحب الشعر والسمر، وكان للحجاج بن يوسف كذلك مجالسه، ففي الشتاء يجلس والناس أمامه على الكراسي، أما في الصيف فيجلس في حديقة قصره في مدينة واسط على سرير بجوار بركة ماء، وكانت تدور على الجالسين أطباق كثيرة من الرُّطَب، وكان الحجاج يجب سماع الشعر وخاصة من جرير، وكانت لمجالس الولاة -أيضًا- تقاليد وآداب، فساروا فيها سيرة أكاسرة الفرس، واقتبسوا منهم -كذلك- نظام الحجَّاب.
مجالس العامة في العراق
اختلفت أماكن مجالس العامة الاجتماعية، فقد كان بعضهم يعقدها في المساجد أو الجبانات، والبعض الآخر يعقدها في البيوت أو الحانات أو الأديرة أو كناسة الكوفة أو مربد البصرة.
وكانت مجالس القُصَّاص من أبرز مجالس العراق؛ فكان القَصَّاص يجلس في المساجد أو البيوت ويقص على الناس القصص والتواريخ والأساطير، وهي تعتمد غالبًا على الخيال حتى تكتسب صفة التشويق والترغيب.
تلك بعض المحافل الاجتماعية، وعلى رأسها مجالس الخلفاء والولاة والعامة في العصر الأموي، ولقد كانت هذه العادات والتقاليد من أبرز الأمثلة على التطور الحاصل في المجتمع الإسلامي، حيث الاختلاط والتنوع الجنسي، ومن ثَمَّ قوة الدولة وهيبتها.