شبهة والرد عليها
شبهة والرد عليهااتهم خلفاء الدولة العباسية وخاصة الرشيد بشرب النبيذ، وبمجالس الغناء والطرب والجواري...
والرد على ذلك يكون من جوانب إن المؤرخين ذكروا أن هارون الرشيد كان يشرب نبيذ التمر. بل وذكروا أن أبا حنيفة كذلك كان يفعل.. وفي مذهب الإمام أبي حنيفة المعمول به في العراق أيام الرشيد أنه يحل شرب عصير التمر في حالتين:
الحالة الأولى: إذا نقع أو طبخ طبخًا وشرب منه قبل أن يغلي ويشتد عصير التمر، فهو في هذه الحالة حلال بإجماع العلماء.
الحالة الثانية: إذا طبخ طبخًا حتى غلا واشتد وشرب منه مقدار قليل يغلب على ظن الشارب أنه لا يسكره وكان شربه له لغرض التقوِّي لا بقصد اللهو والطرب، وهنا خلاف بين العلماء من مذهب أبي حنيفة. فإذا شرب من هذا العصير المطبوخ مقدارًا كبيرًا يسكر عادة فإنه يكون حرامًا بإجماع فقهاء المذهب وهذا كله في حالة الطبخ. أما إذا نقع وترك حتى غلا واشتد فإنه يكون حرامًا على الإطلاق بإجماعهم.
والسؤال الآن: ماذا كان يشرب الرشيد؟ الأنواع المسكرة أم الأخرى؟
يقول ابن خلدون: من ذلك ما يحكى من معاقرة الرشيد الخمر،اقتران سكره بالندمان، فحاشا لله! ما علمنا عليه من سوء، وأن هذا حال الرشيد، وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاورته الفضيل بن عياض وابن السماك ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه.. وعبادته وتنفله.
حتى قال: وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها.
أما ما شاع من انتشار الخمر في عصره فإن واقع هذه الدولة وهذا العصر يكذبه، وخاصة إذا علمنا أن حاشية الرشيد كان على رأسها الأئمة الثقات أمثال: مالك بن أنس، أبو يوسف، الشافعي، الفضيل بن عياض، عبد الله بن المبارك وغيرهم فهل هؤلاء كانوا يسكتون إذا وجدت الخمر بهذه الصورة التي يذكرها المبطلون؟ أضف إلى ذلك أن هناك أنواعًا كثيرة من المشروبات كانت منتشرة في هذا العصر، وكلها يطلق عليها الشراب مثل: الماء، اللبن، الشربات، وهذه كانت تصنع من الماء المحلى بالسكر وتعطر بخلاصة البنفسج أو الموز أو الورد أو التوت ويطلق عليها الشراب.
أما مجالس الغناء والطرب والجواري
فالسؤال: كيف كان هذا الغناء في العهد العباسي؟ ثم ما هو حكم الغناء؟
الأصل في الغناء الإباحة إلا إذا تسبب في فتنة كأن يحوي كلمات كفر أو مجون، يقول صاحب كتاب النجوم الزاهرة عن أشهر المغنين في عهد الرشيد:
وفي عام 174هـ من الهجرة توفي منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور، وكان منصور هذا يلقب بزلزل، وكان مغنيًا يُضرب بغنائه المثل، وكان الغناء يوم ذلك غير الموسيقى الآن وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة، وهو نوع من إنشاد زماننا على الضروب لإنشاد المداح والمواعظ.
وهذه نماذج من الشعر الغنائي الذي كان موجودًا في ذلك العصر...
نراع بذكر الموت ساعـة ذكره *** ونفتر بالدنيا فنلهو ونلعـب
ونحن بنو الدنيـا خلقنـا لغيرها *** وما كنت فيه فهو شيء محبب
وقولهم:
المـرء في تأخيـر مدتـه *** كالثوب يبلـى بعد جدته
عجبًا لمنتبـه يضيـع مـا *** يحتـاج فيه ليوم رقدتـه
وأما موضوع الجواري وكثرتها لدى الرشيد، فهذا أمر صحيح يقول د. مؤيد فاضل صاحب كتاب شبهات في العصر العباسي الأول: وفي الحديث عن الجواري مثال آخر للاختلاف في التصور بيننا وبينهم[1]، فقد وصم الخلفاء بأنهم كانوا يتخذون العشيقات والخليلات من الجواري، وراحوا يتغزلون بهن شعرًا ونثرًا، فمفهومنا وتصورنا لهذا الغزل ولأولئك الجواري أوقعنا في هذا الوهم، حيث اعتبرنا ذلك نقيصة في الخلفاء، ولو أننا رجعنا إلى الشرع في موضوع الجواري لعلمنا أن الجارية ملك يمين يملك سيدها حق التمتع بها وحق الاستخدام.. وليس على السيد أن يعدل بين إمائه كما يعدل بين نسائه.
وفي المغني لابن قدامه: يمكن للرجل أن يكون له عدد كبير من الإماء أو الجواري، يدخل عليهن كيف يشاء.
مواقف
ولمزيد من معرفة حال هذه النخبة من الخلفاء، فتأمل هذه المواقف:
- عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلى ابن طاووس، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا به جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة (جمع جلواز وهو الشرطي) بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا، فأطرق عنا قليلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاووس فقال له حدثني عن أبيك، قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال: رسول الله : "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله".
قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال عظني. قال: نعم، إن الله I يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} [الفجر: 6-14]. قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأها من دمه، فأمسك ساعة حتى اسودَّ ما بيننا وبينه.
ثم قال: يا ابن طاووس، ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. فقال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله.
- حج أمير المؤمنين هارون الرشيد إحدى حجاته، فلما قضى اليوم الأول في منى سهر عنده وزيره الفضل بن الربيع، حتى إذا حان وقت النوم انصرف إلى خيمته، وبينما هو نائم بعد أن انقضى شطر من الليل سمع قرع الباب أمام خيمته فقال: من هذا؟ فقيل له: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعًا فوجد هارون الرشيد على الباب فقال له: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت لي أتيتك.
فقال هارون: ويحك! قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم، فانظر لي رجلاً أسأله عنه. فقال الفضل: هاهنا سفيان الهلالي العالم المحدث.
قال هارون: امض بنا إليه.
قال الفضل: فأتينا خيمة سفيان، فطرقنا عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعًا، فلما وجد أمير المؤمنين بباب الخيمة قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت لي أتيتك.
فقال الرشيد: جد لنا ما جئنا له، وحادثه ساعة ثم سأله: أعليك دين؟
قال: نعم. فقال الرشيد: يا أبا العباس، اقض دينه. وانصرفنا فقال لي أمير المؤمنين ونحن في الطريق: ما أغنى عني صاحبك، فانظر لي رجلاً أسأله.
فقلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني.
قال امض بنا إليه. فأتيناه وقرعت الباب فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا فلما وجد نفسه بين يديه قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك.
فقال: جد لنا ما جئنا له وحادثه ساعة ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال لي الرشيد: يا أبا العباس اقض دينه ولما انصرفنا قال أمير المؤمنين ما أغنى عني صاحبك شيئًا، فانظر لي رجلاً أسأله.
فقلت: هاهنا الفضيل بن عياض التميمي، شيخ الحرم ومن أئمة الهدى فقال: امض بنا إليه. فأتيناه فإذا هو قائم يصلي في خيمته يتلو آية من كتاب الله ويرددها، فقرعت عليه فقال: من هذا، قلت: أجب أمير المؤمنين. قال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله، أما تجب عليك طاعة؟
ففتح الباب ثم أطفأ السراج والتجأ إلى زاوية في خيمته، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد كفي إليه فقال الفضيل: أواه من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله. فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال هارون: جد لنا ما جئنا له رحمك الله.
فقال الفضيل: وفيم جئت؟ حملت على نفسك وجميع من معك حملوا عليك. حتى لو سألتهم أن يتحملوا عنك شقصا (أي جزءا) من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حباًّ لك أشدهم هربًا منك. وسكت الفضيل هنيهة ثم استأنف كلامه في سكينة الظلام ورهبته -وكانت ضربات قلب الرشيد تكاد تسمعها أذناه كأنها ضربات الساعة- فقال: إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه -لما ولي الخلافة- دعا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: (إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ). فعَدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ولدًا. فبر أباك وارحم أخاك وتحنن على ولدك.
وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، ثم مت متى شئت وإني أقول هذا، وأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام، فهل معك -رحمك الله - مثل هؤلاء القوم ومن يأمرك بمثل هذا؟
فبكى هارون بكاء شديدًا، فقلت للفضيل: ارفق بأمير المؤمنين، فأجابني: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق أنا به؟!
ولما أفاق هارون قال للفضيل: زدني.
فقال الفضيل: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- شكا إليه سهرًا فكتب إليه عمر يقول: "يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار وخلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائمًا ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك" فلما قرأ العامل كتاب عمر بن عبد العزيز طوى البلاد حتى قدم عليه فقال له عمر: "ما أقدمك؟" فأجابه: "لقد خلعت قلبي بكتابك، لا وليت ولاية أبدًا حتى ألقى الله ".
فبكى هارون بكاءً أشد من الأول، ثم قال للفضيل: زدني.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم النبي r جاء إليه فقال: يا رسول الله، أمرني إمارة. فقال النبي : "يا عباس، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت ألا تكون أميرًا فافعل".
فبكى هارون أيضًا، ثم قال له: زدني يرحمك الله. فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل. وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك؛ فإن النبي r قال: "من أصبح غاشًّا لرعيته لم يرح رائحة الجنة". فبكى الرشيد بكاء شديدًا، ثم قال للفضيل: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن ناقشني، والويل لي إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي.
قال هارون: إنما أعني دين العباد. فقال الفضيل: ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره. فقال هارون: هذه ألف دينار، فخذها وأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك.
قال الفضيل: سبحان الله! أنا أدلك على سبيل الرشاد، وأنت تكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك! ورفض أن يأخذها.
قال الفضيل بن الربيع: ثم سكت ولم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فقال الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا.
- دعا أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، أبا عمرو الأوزاعي فلبى دعوته، ولما سلم عليه، سأله أبو جعفر: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟
- وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟
- أريد الأخذ منكم والاقتباس عنكم.
- فانظر يا أمير المؤمنين ولا تجهل شيئًا مما أقول.
- وكيف أجهله وأنا أسألك عنه، وقد وجهت فيه إليك؟
- أن تسمعه ولا تعمل به.
- فصاح الربيع بالأوزاعي، وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة.. فطابت نفس الأوزاعي وانبسط في الحديث فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن ابن بسر، أن رسول الله r قال: "أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه، فهي نعمة من الله سيقت إليه إن قبلها بشكر، وإلا كانت حجة عليه من الله ليزداد بها آثمًا ويزداد الله بها عليه سخطًا". يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن ابن بسر أن رسول الله r قال: "أيما والٍ بات غاشًّا لرعيته حرم الله عليه الجنة". يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين. يا أمير المؤمنين، قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، وكل له عليك نصيبه من العدل، فكيف إذا تبعك منهم وفد وراء وفد، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟
يا أمير المؤمنين، لقد كان النبي بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، مواسيًا بنفسه لهم في ذات يده، وكان فيهم بالقسط قائمًا، ولعوراتهم ساترًا، لم تغلق عليه دونهم أبواب، ولم يقم عليه دونهم الحجاب، يبتهج بالنعمة عندهم ويبتئس بما أصابهم.
يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب ابن مسلمة أن رسول الله دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدشها أعرابيًّا لم يتعمدها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد! إن الله لم يبعثك جبارًا ولا متكبرًا، فدعا النبي الأعرابي فقال: "اقتص مني". فقال الأعرابي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت لأفعل ذلك أبدًا، ولو أتيت على نفسي. فدعا له الرسول بخير.
فكيف بمن شقَّق أبشار الناس، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه؟!
يا أمير المؤمنين، رُض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض، قال فيها رسول الله : "لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". يا أمير المؤمنين، الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك.
يا أمير المؤمنين، أتدري ما جاء عن جدك في تأويل هذه الآية: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]؟ قال: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك.. فكيف بما حدثته الألسن وعملته الأيدي؟!
يا أمير المؤمنين، بلغني عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة، لخفت أن يسألني الله عنها.. فكيف بمن حُرِم عدلك وهو على بساطك؟!
يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر عظيم، لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه. حدثني يزيد عن جابر عن عبد الرحمن عن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيمًا، فقال له، ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله؟
قال: لا. قال عمر: وكيف ذاك؟
قال: لأنه بلغني أن رسول الله r قال: "ما من والٍ يلي من أمور الناس شيئًا، إلا أتي به يوم القيامة فيوقف على جسر من نار فينتفض به الجسر انتفاضًا يزيل كل عضو من موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسنًا نجا بإحسانه، وإن كان مسيئًا انخرق به ذلك الجسر فهوي به في النار سبعين خريفًا" فقال له عمر: ممن سمعت هذا قال من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر، فسألهما فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله r فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من أسلت الله أنفه، وألصق خده بالأرض.
فأخذ أبو جعفر المنديل، ووضعه على وجهه فبكى وانتحب حتى أبكى الأوزاعي... ثم مضى الأوزاعي ودمعه ينهمر:
يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس النبي إمارة على مكة والطائف فقال له: "يا عباس، يا عم النبي، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها". وهي نصيحة منه لعمه، وشفقة منه عليه؛ لأنه لا يغني عنه من الله شيئًا، ولما أوحى الله I إليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فقال: "يا عباس، يا صفية عمة النبي، إني لست أغني عنكم من الله شيئًا، ألا لي عملي ولكم عملكم".
وقد قال عمر : لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقدة، لا يطلع منه على عورة، ولا يحنو على حوَّية، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال: السلطان أربعة أمراء: فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذاك المجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه الرحمة. وأمير ضعيف ظلف نفسه وأرتع عماله فضعف، فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال رسول الله فيه: "شر الرعاء الحطمة" فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعًا.
وقد بلغني -يا أمير المؤمنين- أن عمر بن الخطاب قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من كان الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين، إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى.. إنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه.
هذه نصيحتي والسلام عليك.. ثم نهض فقال أبو جعفر: إلى أين؟ قال: إلى البلد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله.
قال أبو جعفر: قد أذنت وشكرت لله نصيحتك، والله الموفق للخير والمعين عليه، فلا تحرمني من مطالعتك إياي بمثلها فإنك المقبول غير المتهم في النصيحة.
- أفعل إن شاء الله. قال محمد بن مصعب: وأمر أمير المؤمنين للأوزاعي بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله الأوزاعي، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض الدنيا كلها.. وعرف المنصور مذهب الأوزاعي فلم يؤلمه أنه رد عطاءه.
وبعد -أيها الأخ القارئ- فلا شك أنه قد وقعت بعض أخطاء من جانب هؤلاء الخلفاء، ولكن يجب عليك أن تقيِّم الأشخاص تقييمًا موضوعيًّا، وقد عرَّف علماء الإسلام المسلم العدل الثقة: أنه من غلبت حسناته سيئاته، فانتبه إلى ذلك، ولا تنساق خلف من يسلطون الأضواء على السيئات ويخفون المحاسن؛ ليهزوا ثقتنا في تاريخنا.