مــن هم الأنبــاط
الوجود التاريخي
اختلف الباحثون في تحديد بدايات الوجود التاريخي للأنباط حيث تزودنا الالواح الاشورية بإشارات وقرائن تاريخية تدل على وجود النبطي في حدود المشرق العربي وترجع تلك الاشارات الى الفترة ما بين القرن الثامن والسابع قبل الميلاد ، إلى جانب وجود إشارة تاريخيـة أوردها التـوراة ما تزال موضع خلاف ، ألا أن أول دليل تاريخي رسمي هو العائد الى المؤرخ ثيودور الصقيلي والذي تحـدث عن هزيمة الحملـة اليونانية التي قادها انتيقـونس على البتـراء (الرقيم) سنة 312 ق. م وهذا الدليل يؤكد أن الاستقرار النبطي وبناء الدولة قد سبق هذا التاريخ بأشواط عديدة ، وهو مؤشر على امتلاك الأنباط في هذه المرحلة لجيش منظم استطاع هزيمة اليونان ، كذلك امتلاكهم لثروات هائلة منظمه ، كانت مطمعاً لقادة الاسكندر المقدوني .
ولقد استطاعت الدولة النبطية الحفاظ على استمراريتها التاريخية لفترة ما بين سبعة الى ثمانية قرون ، حتى نهاية وجودها السياسي بسيطرة الرومان على البتراء ( الرقيم ) سنة 106 م .
جغرافـيـا الأنبــاط
لقد شهدت منطقة آدوم ومؤاب الوطن الأول للأنباط فاستقروا هناك وبدأوا بتكوين كيانهم السياسي حيث توفرت في هذه المنطقة الشروط الملائمة للاستقرار وأهمها وقوعها على خط التجارة وعقدة المواصلات في العالم القديم ، وقربها من البحر الميت الذي يعد مستودعاً للثروات ، وبرع الأنباط في استغلاله منذ بدايتهم الأولى . وفي أوج الازدهار النبطي في عصر الحارث الثالث والحارث الرابع وامتدت دولة الأنباط من دمشق شمالاً حتى الحجر ومدائن صالح جنوباً ومن سيناء وغزة على البحر المتوسط وشرق الدلتا وغرباً حتى الصحراء الدالية شرقاً .
وتضم هذه الرقعة الجغرافية منطقة سيناء والنقب والجزء الشمالي الغربي من الجزيرة العربية وجانبي وادي عربه وشرق البحر الميت ونهر الأردن وحوران وجبل الدروز والبقاع .
بينما امتد النفوذ الحضاري للأنباط بفعل سيطرتهم على التجارة على مساحات شاسعة من العالم القديم ، حيث أكدت المسوح الأثرية وجوداً نبطياً في اكثر من موقع في مصر وجنوب إيطاليا وجزر البحر المتوسط وشرق الجزيرة العربية واليمن .
يُعد التنظيم السياسي الذي وصلت إليه دولة الأنباط أحد معالم الرقي الحضاري الذي قدم نموذجاً متقدماً على مستوى العالم القديم ، وعلى الرغم من قلة المعلومات التي تتحدث حول هذا الموضوع ألا أن الاشارات المتأخرة تشير بشكل واضح الى مستوى متقدم من التنظيم السياسي ، فأول إشارة الى ملوك الأنباط تعود الى 169 ق.م. والتي تتحدث عن الحارث الأول الذي ذكر في التوراة ، ولا بد من التأكيد على الخصوصية الحضارية التي قدمها الأنباط في نموذجهم في الادارة السياسية حينما تحولوا من عقلية القبلية الى عقل الدولة ، فحافظوا على الخصائص الإيجابية في النظام الاجتماعي التقليدي وطوروها في سياق حركة نموهم الحضاري ، فقد كان الملك النبطي نموذجاً راقياً لشيخ القبيلة ، فهو كبير القوم وسيدهم ، مما وفر خصوصية في المشاركة السياسية من قبل مختلف فئات المجتمع ندر وجودها في المجتمعات القديمة ، تشكل إحدى الأنوية الأولى للنظام الديمقراطي حيث كان للملك مجلس للشورى يشيرهم في إدارة أمور الدولة ، وتصريف أعمالها ، كما كان للملك وزراء يساعدونه ، ويطلب من الملك تقديم تقريراً شاملاً عن أعمال الدولة يقدم الى مجلس الشورى ، الى جانب ذلك بقي الملك النبطي يحتفظ بمنظومة القيم العربية فهو الذي يخدم ضيفة بنفسه ويستقبل أبناء شعبه ، ويمنحهم حبه حتى أن أسموه ( رحم عمو ) أي المحب لشعبه ، كما وصل هذا الرقي في تنظيم الادارة السياسية الى منح المرأة الحق في الحكم فهذه شقيلة زوجة الحارث الرابع تحكم كملكة بعد موت زوجها في بداية القرن الأول ميلادي .
هناك اختلاف بين الباحثين حول تحديد وترتيب قوائم ملوك الأنباط وأكثرهم شيوعاً هي القائمة المرتبة على النحو التالي :-
· الحارث الأول 169 – 146 ق.م .
· الحارث الثاني ( 110 ق.م – 95 ق.م ) ثم أولاده .
· عبادة الأول ( 95 – 88 ق.م )
· رب أيل الأول ( 62 – 30 ق.م )
· الحارث الثالث ( 87 – 62 ق.م )
· مالك الأول ( 62 – 30 ق.م )
· عبادة الثاني ( 30 – 9 ق.م )
· الحارث الرابع ( 9ق.م – 30 م )
· مالك الثاني ( 40 – 70 م )
· رب أيل الثاني ( 70 – 106 م )
الاقتصـــاد
يعد النهوض الاقتصادي الذي شهدته دولة الأنباط أحد الدعائم الأساسية التي أدت إلى استمرارية دولة الأنباط في الوقت الذي جعلها مطمعـاً للقوى الأجنبية ، فلقد توفرت عدة عوامل ساهمت في هذا النهوض أهمها الموقع الجغرافي على طرق القوافل وبالقرب من مصادر الثروات الطبيعية على رأسها البحر الميت ومناجم النحاس في وادي عربه ، علاوة على ما تميز به الأنباط من حيوية وقدرة فائقة في التجارة حتى أصبحوا مضرب المثال في العالم القديم .
التجـــارة
بدأ الأنباط حماة للقوافل التجارية ، ثم وكلاء محليين للتجارة ، ثم وسطاء في التجارة ، إلى أن أصبحوا أصحاب تجارة وسيطروا على الطرق التجارية في العالم ، حيث كانت قوافلهم المكونة من مئات الجمال تحمل البخور والتوابل والعطور من شواطئ عُمان واليمن ومروراً بمكة والمدينة والحجر ووادي رم إلى البتراء ( الرقيم ) عاصمة القوافل ، ثم تتفرع الطريق بها إلى دمشق شمالاً أو عبر النقب وسيناء غرباً للتجارة مع المصريين .
وبنى الأنباط العديد من محطات ومدن للقوافل توفر الأمن والراحة والمؤن والأسواق على طول الخطوط التجارية ومن أهمها مدائن صالح ووادي رم والبتراء وأم الرصاص وأم الجمال وبصرى وعبده في النقـب وخلصه وغيرها . بالإضافة إلى سيطرتهم على بعض الموانئ الهامة لتجارتهم مثل ميناء غزة وميناء العقبة .
الزراعــة
أدرك الأنباط مبكراً أهمية تعدد الموارد الاقتصادية ، فالتفتوا نحو الزراعة على الرغم من المياه وطبيعة الظروف المناخية ، وقدموا أحد أهم إنجازات الحضارة الإنسانية في تقنيات هندسة الري ، حيث برعوا في الحصاد المائي الذي وفر مستوى متقدماً في إدارة المياه مقدمين نموذجاً مبكراً في ادارة المياه ، فلقد حفروا النفاق وبنوا السدود وحفروا الآبار والترع والقنوات وجدروا السفوح ذات الانحدارات الشديدة للحفاظ على التربة من الانحراف وهو ما يعرف الآن بالزراعة الكنتوريه .
وبينت المسوحـات الأثرية وجـود اكثر من 500 مستوطنـة زراعية نبطية ، وأهم محاصيلهم الحبوب والزيتون والكرمة .
الصناعــة
تعددت الموارد الاقتصادية للأنباط ، فأخذت الصناعة جانباً مهماً من الاهتمام ، حيث واكبت الصناعة الاستخراجية البدايات الأولى للدولة ، حينما استغل الأنباط ثروات البحر الميت وعلى رأسها القار الذي كانوا يستخرجونه لكي يصدر الى مصر ، كذلك استغل الأنباط مناجم النحاس في وادي عربة وفيفان وطوعوا مستخرجاتها في صناعتهم الأخرى مثل الحلي والأسلحة والأدوات الأخرى . أما صناعة الفخار فقد كانت إحدى إنجازات الأنباط المميزة حيث قدموا أفضل أنواع الفخار على مستوى الحضارات القديمة والذي تميز بجودة صناعته ورقته وبراعة زخرفته .
ووجدت لديهم صناعات أخـرى مثل صناعة الحلي والصناعـات الغذائيـة ، والصناعة المعدنية المنزلية حيث دلت بعض ألقى الأثرية من معاصر الزيت والنبيذ على براعتهم واهتمامهم بالصناعات الغذائية .
النظام النقدي
تميز الأنباط بامتلاكهم نظاماً نقدياً مستقلاً ، لم يكن مرتبطاً بالدولة الكبرى كما جرت العادة في العالم القديم وتعود أول قطعة نقدية وجدت الى عهد الملك الحارث الثاني (110 ق.م ) .
وبشكل عام كانت النقود النبطية تضرب في عهد كل ملك تحمل صورته أو صورته مقترنة بصورة زوجته ، وعلى الوجه الآخر شعار الدولة وبعض العبارات ، وكانت النقود تصنع من النحاس أو البرنز أو الفضة .
المجتمـع والديانة
مَرَّ المجتمع النبطي بعدة مراحل في تطوره الاجتماعي ، بدأ من مرحلة البداوة التي اتصفت بعدم الاستقرار ونمط الانتاج الرعوي وتدني مستوى الانتاج المادي ثم مرحلة التحول من القبيلة الرعوية الى الجماعات المستقرة حيث تطورت أدوات الانتاج وتعددت ، والمرحلة التالية مرحلة مجتمع الدولة التي واكبت اكتمال ملامح عمليات البناء والتنظيم الاجتماعي حيث استوت بنية المجتمع ووصل الى مستوى متقدم من التنظيم وتقسيم العمل ، والى اليوم لا توجد أي اشارة تثبت وجود الطبقية في المجتمع النبطي أو وجود العبيد فالمكانة الاجتماعية للأفراد تحدد وفق قدرتهم على الانتاج المادي حيث تميز المجتمع النبطي بتقديس العمل وكان هنالك عقوبة لمن يتقاعس في عمله أو يتدنى إنتاجه .
أما الديانة عند الأنباط فتتصف بخصوصيتها المحلية وانفتاحها على العالم الخارجي ، فآلهة الأنباط التي ابتدعوها هي الآلهة التي ورثها العرب فيما بعد وعبدت في الحجاز قبل الإسلام مثل اللات ومناه والعزة وهبل وهذا يعني أن الديانة عند الأنباط وثنية متعددة الآلهة ونتيجة للتواصل الحضاري والانفتاح على الحضارات الأخرى بفعل التجارة فلقد تأثر الأنباط بثقافة وديانه الشعـوب المحيطة ، فعبدوا آلهة فينيقية تمثل الخصب ( عشتار) وأطلقوا عليها اسم محلي غطار عطيس ، كما عبدوا آلهة يونانية رومانية ، كما تأثروا بشكل كبير بعبادات الحضارات الشرقية وأهمها المصرية والآشورية فعبدوا آلهة الرعد والمطر والزوابغ .
ويبدوا من أهم آلهة الأنباط الخاصة بهم هو ألههم ذو الشرى كبير الآلهة وابن اللات .
ولقد اهتم الأنباط بالطقوس والممارسات الدينية فبنوا لهذه الغاية العديد من المعبد مثل معبد قصر البنت ( معبد ذو الشرى ) ومعبد الأسود المجنحة في البتراء ومعبد اللات في رم ومعبد خربة التنور وخصصوا لهذه المعابد الكهنة وزينوها بتماثيل الآلهة ، كما خصصوا أماكن خاصة لتقديم القرابين والأضاح للآلهة مثل موقع المذبح في البتراء ( الرقيم ) .