لقد قرب الأجل، وشعر معاوية بذلك، فكانت آخر خطبة له إجلاء لفلسفة حكمه، وتوصية لأمته وأهل بيته بما عزم عليه، قال : "أيها الناس، إنَّ مَن زَرَعَ استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني، وإنما يليكم من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيرًا مني. ويا يزيد، إذا دنا أجلي فَوَلِّ غسلي رجلاً لبيبًا؛ فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل، وليجهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القارضة أنفي وفمي وأذني وعيني، واجعل هذا الثوب مما يلي جلدي دون أكفاني. ويا يزيد، احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي، فَخَلُّوا معاوية وأرحمَ الراحمين". ثم أوصى بنصف ماله أن يُرَدَّ إلى بيت المال -كأنه أراد أن يطيب له- لأن عمر بن الخطاب قَاسَمَ عماله.
ويصور لنا ابن سيرين اللحظات الأخيرة في حياة معاوية قائلاً: جعل معاوية لما احتضر يضع خدًا على الأرض ثم يقلب وجهه، ويضع الخد الآخر يبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له، ثم تمثَّل بهذا البيت:
هو الموت لا منجى من الموت *** والذي نحاذر بعد الموت أدهى وأقطع
ثم قال: اللهم أَقِلِ العثرة، واعفُ عن الزَّلَّة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجُ غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة مهرب إلا إليك.
ثم أُغمِيَ عليه، ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا الله، فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي. ثم مات بدمشق في رجب سنة 60هـ.