سياسة يزيد بن معاوية
كانت سياسة يزيد بن معاوية بناءً على الخطة التي وضعها له أبوه قبيل وفاته حيث قال له: "يا يزيد، اتَّقِ الله، فقد وطأتُ لك هذا الأمر، ووليت من ذلك ما وليت فإن يكن خيرًا فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به، فأرفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول تُؤذَي به وتُنتَقَص به، وطأ عليه يَهْنَك عيشك وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنها تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم، ولِنْ لهم بحيث لا يرون منك ضعفًا وخورًا، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وأدنهم منك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم، فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك، فإذا أردت أمرًا فادعُ أهل السن والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى، فشاورهم ولا تخالفهم، وإياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في صدر رجل واحد، وصَدِّقْ من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك، وشمر إزارك، وتعاهد جندك وأصلح نفسك تصلح لك الناس، ولا تدع لهم فيهم مقالاً فإن الناس سراع إلى الشر، واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلت ما أوصيتك به عرف الناس لك حقك، وعظمت في أعين الناس....".
وقد أوصاه معاوية -أيضًا- في هذه الوصية بالإحسان إلى أهل الشام، وأهل الحجاز، وقد حاول يزيد تَرَسُّمَ هذه السياسة التي تضمنتها هذه الوصية التي تعتبر من أهم الوثائق في فن الحكم والسياسة والإدارة والتعامل مع الناس، فقد دأب على إكرام أشراف الحجاز، وبصفة خاصة بني هاشم مثل: عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين وغيرهم، فعندما وفد عليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكانت جائزته على عهد معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف، فقال له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألفَ ألفٍ أخرى. فقال له ابن جعفر: والله لا أجمع أبويَّ لأحدٍ بعدك. وعندما خرج ابن جعفر من عنده رأى على باب يزيد بخاتى مبرَّكَاتٍ، قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد فسأله منها ثلاث بخاتى ليركب إلى الحج والعمرة وإذا وفد إلى الشام على يزيد؛ فقال يزيد للحاجب: ما هذه البخاتى التي على الباب؟ -ولم يكن يشعر بها- فقال: يا أمير المؤمنين؛ هذه أربعمائة بختية جاءتنا من خراسان، تحمل أنواع الألطاف، وكان عليها أنواع من الأموال كلها، فقال: "اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها. فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حُسْنِ الرأي في هذا؟ يعني يزيد.
أَحْسِنْ إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ
ولم تكن سماحة يزيد قاصرة على بني هاشم، بل كانت تَعُمُّ أهل الحجاز جميعًا حتى إنها شملت أولئك الذين ثاروا عليه وخلعوا طاعته من أهل المدينة، فقد جاءه وفد من شيوخ المدينة، وفيهم عبد الله بن حنظلة ومعه ثمانية بنين فأعطاه مائة ألف، وأعطى كل رجل منهم عشرة آلاف درهم، سوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة أتاه أناس، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: أتيتكم من عند رجل واللهِ لو لم أجد إلا بنيَّ هؤلاء لجاهدتُه بهم، قالوا: فإنه بلغنا أنه أجازك وأكرمك وأعطاك. قال: قد فعل، وما قبلت ذلك منه إلا لأتقوَّى به عليه، ثم قاد الثورة ضد يزيد وخلع طاعته.
الجهاد في عهد يزيد بن معاوية
كانت الجيوش الإسلامية عند وفاة معاوية تسيطر على أفغانستان وأوساط باكستان -ناحية الشمال- ثم تمتد لحدود إيران الحالية مع روسيا وفي ثغور الشام ترابط الجيوش في البحر والبر على حدود الروم، وكلنا يعرف الشواتي والصوائف الشهيرة التي حدثت في عهد معاوية ، والتي من نتائجها حوصرت القسطنطينية بقيادة يزيد وفتحت جزر مثل رودس وكريت وغيرها.
وفي عهد يزيد لم تزل الجيوش تتمم فتوحات أبيه على تلك الجهات الثلاث على الرغم من وجود الفتن، أو بعض الفتن والثورات الداخلية، وسوف نتحدث بإيجاز عن هذه الفتوحات التي تمت في عهد يزيد.
أولاً: جبهة إفريقية:
كانت جبهة أفريقية قد توقفت زمن معاوية واكتفت بفتح تونس وربما شرقي الجزائر -ناحية الحدود الحالية- فلما استخلف يزيد استعمل عقبة بن نافع واليًا وقائدًا عامًا على إفريقية فسار من الشام وقدم القيروان بعشرة آلاف فارس فجَدَّد بناء القيروان، وشَيَّدها ونَقَلَ إليها الناس فعَمُرَت وعَظُمَ شأنها، وخرج عقبة بأصحابه وبكثير من أهل القيروان، وبعد أن ترك بها جندًا أَمَّر عليهم زهير البلوي، فسار ناحية الغرب حتى مدينة (باغية) لا يدافعه أحد، والروم يهربون في طريقه يمينًا وشمالاً؛ فحاصرها بعد قتال عنيف انهزم الروم في آخره؛ فغنم مغانم ورحل عنها فنزل تلمسان؛ فخرج عليه الروم والبربر بجيش كثيف وبعد قتال عنيف افتتحها عنوة وغنم مغانمها، ثم سار إلى بلاد الزاب ومدينتهم (أربة) وحولها نحو ثلاثمائة وستين قرية.