أعطى المجاهدون المسلمون في العصر الأموي صورًا رائعة للتضحية والبطولة والتجرد، وإخلاص النية لله في جهادهم، سواء كانوا من القادة أو الأمراء، أو من عامة الجند، أو من جماعات العلماء، والزاهدين والربانيين، الذين فهموا الإسلام عبادة وجهادًا، ومارسوا ذلك على نحو مثير للإعجاب ودافع إلى التأسي، قد توزعت صور الإخلاص والتضحية هذه على جميع جبهات القتال، وفي جميع مراحل الجهاد؛ مما يدل دلالة واضحة على عمق التوجه الإسلامي للفتوحات في العصر الأموي، وينفي الغبش الذي يثيره المنحرفون عن بني أمية على أنصع منجزاتهم وأحراها بالفخر والإعزاز، ومهما يكن في هذه الروايات التي تحكي عن تلك البطولة والتجرد من مبالغة -والبطولة دائمًا تغري بالمبالغة- فإنها تترك في مجملها دلالة قوية على إسلامية الفتوح في العصر الأموي.
حروب الروم
يبدو أن حصار القسطنطينية الأول سنة 50هـ قد أطلق حماسة الجيش وهو يرى نفسه على أبواب عاصمة عدوه اللدود التي بانهيارها سوف تسقط إمبراطورية الروم كما سقطت قبلها إمبراطورية فارس وكان معاوية يتابع بشغف أخبار هذه الحملة، وكان فيها ابنه يزيد وعبد العزيز بن زرارة الكلابي، ولم يزل عبد العزيز هذا أثناء القتال يتعرض للشهادة، وينشد متحمسً، وينغرس في صفوف الروم حتى استُشهد، فلمَّا بلغ الخبر معاوية ؛ قال مُعزِّيًا والده: "واللهِ هلك فتى العرب". فقال زرارة:"ابني أو ابنك؟" قال: ابنك، فآجَرَك الله. فقال الرجل:
فإن يكن الموت أودى به *** وأصبح مخ الكلابي زيرا
فكل فتى شارب كأسـه *** فإما صغيرا وإما كبـيرا
وفي سنة 88هـ هاجم المسلمون حصن طوانة قرب المصيصة، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد، وقد ركب المسلمون عدوهم حتى دخلوا كنيسة الحصن، ثم رجعوا فانهزموا حتى ظنوا ألا يجبروها أبدا، وبقى العباس في نفر منهم: ابن محيريز الجمحي الزاهد؛ فقال له العباس: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟! فقال له: نَادِهِم يأتوك، فنادى فأقبلوا جميعًا حتى هَزَمَ اللهُ العدو وفتحوا الحصن.
وأثارت بطولات البطال أبي الحسين عبد الله الأنطاكي، أحد قادة المسلمين وفرسانهم، خيالات الرواة وعجبهم حتى وضعوا له سيرة ذاتية وقد استشهد في إحدى معاركه مع الروم سنة 122هـ أو 123هـ.
وكان عبد الوهاب بن بخت ممن غزا مع البطال أرض الروم سنة 113هـ فانهزم الناس عن البطال؛ فحمل ابن بخت وهو يقول لفرسه: ما رأيت فرسا أجبن منك، وسفك الله دمى إن لم أسفك دمك، ثم ألقى بيضته عن رأسه، وصاح: أنا عبد الوهاب، من الجنة تفرون؟! ثم تقدم في نحر العدو، فجاء رجل وهو يقول: واعطشاه!! فقال له: تقدم الريّ أمامك، وخالط القوم حتى قُتِل، وقُتِل فرسه.
وفي سنة 123هـ خرج عشرون ألفا من الروم فنزلوا على المسلمين في ملطية فأغلق أهلها أبوابها، وظهر النساء على السور عليهن العمائم يقاتلن، وخرج رسولهم إلى هشام بن عبد الملك بالرصافة مستغيثًا؛ فندب هشام الناس إليه، ثم بلغه الخبر بجلاء الروم عنه، لكنه غزا بنفسه حتى نزلها وعسكر عليها حتى بُنِيَت وحصنت.
وكان عدد من العلماء والزهاد يشارك في غزو الروم على الجبهة الشمالية فَخَلَّفوا لنا عددا من الروايات التي تدل على نفوس شفافة جعلت الله قصدها وغايتها، فقد مرض حكيم بن حزام بن حكيم، فعاده مكحول فقيه أهل الشام وسأله: أتراك مرابطا هذا العام؟ فقال حكيم: كيف تسألني عن هذا وأنا على تلك الحال؟! فقال مكحول: وما عليك أن تنوي فإذا شفاك الله مضيت لوجهك، وإن حال بينك وبينه كَتَبَ لك نِيَّتَك.
وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا نغزو مع عطاء الخراساني فكان يحيي الليل من أوَّله إلى آخره إلا نومة السحر.
وكان مسلمة بن عبد الملك يحاصر أحد الحصون، فندب الناس إلى نقب منه فما دخله أحد، فجاء رجل من عُرْض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد؛ فنادى: إني قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي فعزمت عليه إلا جاء؛ فجاء رجل فقال: استأْذِن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه؛ فأتى مسلمه فأخبره عنه؛ فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثًا، ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأذنوا له بشيء، ولا تسألوه من هو؟ فقال مسلمة: فذاك له، فقال: أنا هو، فكان مَسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.
حروب إفريقية والأندلس
وفي الجبهة الغربية في شمالي إفريقية والأندلس كانت الروح ذاتها تسري؛ فقد رووا أن عقبة بن نافع كان مستجاب الدعوة، فلما هَمَّ أن يبني مدينة القيروان تخير مكانها فوجده غيضة لا تُرَامُ من السباع والحيات وغير ذلك من الدواب، فدعا الله ثم قال: يا أهل الوادي، اظعنوا فإنا نازلون. وكرر نداءه ثلاثًا، فجعلت الحيات تنساب والعقارب وغيرها حاملة أولادها، فرآه قَبِيلٌ من البربر فأسلموا، وقطع الأشجار، وأمر ببناء المدينة، وواصل عقبة اندفاعه في شمالي إفريقية حتى بلغ المحيط الأطلسي، فأقحم فرسه فيه، وهو يقول: يا ربِّ، لولا أن البحر منعني لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، مقاتلاً من كفر بك، اللهم إنك تعلم أني لم أطلب إلا ما طلب عبدك ووليُّك ذو القرنين ألا يُعبدَ في الأرض غيرك.
ولكن عقبة ما لبث أن استُشهِد في طريق عودته في تهودة سنة 63هـ لما أحاط به أعداؤه ومعه نفر قليل من أصحابه، فيهم أبو المهاجر بن دينار القائد السابق الذي سجنه عقبة لخلاف معه؛ فلما أحس عقبة بالأعداء يحاصرونه أطلق سراح سجينه، وأمره بالمضي نحو القيروان لحاجة المسلمين إليه، ولكن أبا المهاجر أبى وآثَرَ أن يُستشهد مع قائده وغريمه ومن معهما من المسلمين، فقُتِلا في نفس الموضع شهيدين.
ورغم مشاغل عبد الملك بن مروان أثناء صراعه مع ابن الزبير رضي الله عنهم، فقد أرسل زهير بن قيس البلوى ليثأر لعقبة ومن قُتِل معه، وقد تمكن زهير من ذلك سنة 69هـ، ولكن نجدته أودت به هو الآخر، إذ إنه لما رأى بعض المسلمين -الذين هاجمهم الروم في برقة وأسروهم- يستنجدون به، نزل في نفر قليل من أصحابه وكانوا أشراف العابدين، ورؤساء العرب المجاهدين أكثرهم من التابعين؛ فقاتلوا الروم حتى قتلوا ومضوا شهداء سنة 71هـ.
وبعد جهد جهيد استطاع موسى بن نصير أن يسيطر تماما على إفريقية والمغرب، وقد أَكْثَرَ الرواة من ذكر كراماته، فلما عزله سليمان سأله: ما الذي كنت تفزع إليه عند حروبك ومباشرة عدوك؟ قال: كنت أفزع إلى التضرع والدعاء، والصبر عند اللقاء.
حروب الجبهة الشرقية
وفي الجبهة الشرقية كان قتيبة بن مسلم يخطب في جنده بعدما ولاّه الحجَّاج أمر خراسان؛ فيقول لهم: "إن الله أحلَّكم هذا المحل ليعز دينه ووعد نبيه النصر، بحديث صادق وكتاب ناطق.. ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذُّخْر عنده. ثم أخبره عمَّن قُتل في سبيل أنه حيٌّ مرزوق، فتنجزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم، وإياي والهُوَينَى". وما زال الخليفة الوليد وعامله الحجاج يشدان أزره، ويحضانه على التقوى وإخلاص النية لله، وانتظار ثوابه، حتى فتح الله على يديه الفتوحات العظيمة.
ولما سار قتيبة لفتح بيكند سنة 87هـ استنصر أهلها السغد، واستمدوا من حولهم فأتوهم في جمع كبير، وأخذوا الطريق على قتيبة فلم ينفذ له رسول، ولم يصل إليه رسول من الحجَّاج القائد الأعلى للجبهة الشرقية، ولم يجرِ له خبرٌ شهرين؛ فأشفق الحجاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار وهم يقتتلون في كل يوم حتى كتب لهم النصر فأيُّ أحساس مفعم بالله وقوته وقدرته!!
ولما فتح قتيبة بيكند هذه ظفر بذلك الخائن الذي استجاش الترك على المسلمين؛ فرفض أن يقبل منه فداءَ نفسه بألف ألف، وقتله وهو يقول: واللهِ لا تُرَوَّع بك مسلمةٌ أبدًا.
وفي إحدى غزواته صَافَّ قتيبة الترك؛ فهاله أمرهم -كثرة وعتادًا- فسأل عن محمد بن واسع الأزدي، وهو أحد الزهاد المعروفين، ماذا يصنع؟ فقالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سِيَّة قوسه، ينضنض بأصبعه نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحب إلى من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير، فلما فتح الله عليهم، وقال لمحمد: ما كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق.
وفي خلافة هشام بن عبد الملك أحاط الترك في منطقة طخارستان -ببلاد ما وراء النهر- بالمسلمين، وقائدهم آنذاك أسد بن عبد الله القسري سنة 11هـ فمضى أسد يحرض جنده ويقول: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي؛ فادعوا الله واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم وهم لا يشكون في الفتح، واستشار أسد الناس في خروجه لقتال ملكهم؛ فخوفه بعضهم المخاطرة بذلك؛ فقال:"واللهِ لأخرجنَّ فإما ظفر وإما شهادة"، وقد كُتِب للمسلمين آنذاك الظفرُ الهنيء.
رغبة القادة والجند في الشهادة
وفي عهد هشام بن عبد الملك استُشهِد جماعةٌ من أبرز قواد المسلمين مثل: الجراح بن عبد الله الحكمي عامله على أرمينية سنة 112هـ واستشهد سورة بن الحر التميمي في خراسان في نفس السنة، وعقبة بن سحيم الكلبي في جنوب فرنسا سنة 107هـ، ثم عبد الرحمن الغافقي في الجبهة نفسها في تور بواتييه سنة 114هـ؛ مما يدل على امتداد ساحات القتال والفداء التي يغشاها القادة بأنفسهم مع أجنادهم، وكلما قُتِلَ واحدٌ منهم قام آخر ليواصل الطريق... وكان هشام في كل ذلك يشفق على جنده، ويتلقى أنباء استشهاد قادته فينخلع قلبه خشية أن يكون أحدهم قد انحاز عن العدو فخسر الجنة، فلما استُشهِد الجراح بن عبد الله دعا هشامٌ سعيدَ بن عمرو بن الحرش أحد كبار قادته؛ فقال له: بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين، فقال سعيد واثقًا: كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أَعْرَفُ بالله من أن ينحاز عن العدو، ولكنه قُتِل.
وكما أعطى القادة هذه الأمثلة كان الجند لا يقلون عنهم حماسةً وحميةً ورغبةً في الشهادة، فقد دخل أحدهم -ويُدعى أبا ضمرة النضر بن راشد العبدي- على امرأته والناس يقتتلون في إحدى هذه المعارك؛ فقال لها: كيف أنت إذا أُتِيتِ بأبي ضمرة مضرجًا بالدماء؟ فشقت جيبها ودعت بالويل، فقال: حسبك، لو أعولت عليَّ كلُّ أنثى لعصيتُها شوقًا إلى الحور العين. ورجع فقاتل حتى استشهد رحمه الله.