إن بعض المؤرخين يعلل النشاط الذي دَبَّ في ساحات الجهاد مع بداية خلافة معاوية بن أبي سفيان بأن معاوية قد أدرك أن استئناف حركة الجهاد سيزيل بعض المرارة التي أحسَّت بها الأمة عندما استسلمت لقضاء الله بخلافته، ومن ثَمَّ سيمكن له ولبني أمية في الأرض.
لا ريب أن استخلاف معاوية كان على غير هوى فريق من الأمة ينشد مثاليات يصعب تحقيقه، ولا يدرك تطور الزمان وتغير الناس، أو تدفعه أحقاد وأهواء ومنافع شخصية وإقليمية أو قبلية لم يستطع فرضها بالقوة من خلال الدماء التي سالت في صِفِّين وغيرها، ولكن معظم أهل الحلِّ والعقد وأصحاب الشوكة والقوة قد بايعوا معاوية من غير إكراه، وربما كان استئناف الجهاد الذي توقف أيام الفتنة الكبرى لأسباب داخلية لفترة موقوتة يُرضي بعض هؤلاء المثاليين، ولكن لم يمنع المعارضين الآخرين من مواصلة معارضتهم للدولة وجيوش المسلمين منشغلة بالفتوح، كما حدث من الشيعة في ثورة حجر بن عدي الكندي، ومن الخوارج في ثوراتهم المتواصلة.
كما أن استئناف حركة الجهاد لم يكن بدعة على سياسة معاوية الذي استمد كثيرًا من الشهرة من جبهات القتال، ومن شهرته كمقاتلٍ عنيد في البر والبحر منذ أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، وكانت له إنجازاته الكبرى في إخضاع الساحل الشمالي للشام لقوى المسلمين، وكما كان له الفضل في تأسيس البحرية الإسلامية وهزيمة الروم في البحر، وانتزاع السيادة منهم لأول مرة في تاريخ المسلمين، وإذا كان من المستبعد أن نقول -جريًا على شبهات المؤرخين-: إن معاوية كان يضمن توريث الحكم في بني أمية منذ بداية استخلافه، وإنه واصل الجهاد للتمكين له ولبني أمية في الأرض؛ فإننا نقرر رغم ذلك أنه من الجميل حقًّا أن يجعل الحاكم المسلم غزو الأعداء وإذلالهم مسوغًا لحكمه عند الأمة، بدل أن يلجأ إلى أساليب القهر السياسي، أو الادعاء الكاذب، أو إثارة الفتنة الداخلية ليعلو من فوقها عرشه.
وشبيه بذلك ما يردده هؤلاء المؤرخون من أن الجهاد في العصر الأموي كان لإخماد التحرك الثوري في شرق الدولة، وصرف الطاقة الحربية الكامنة لدى الثائرين والمعارضين من شيعة وخوارج وعصبيات قبلية متناحرة في نشاط عسكري يفيد الدولة، ويحتجون بقول الحجاج لأهل العراق في إحدى خطبه: "إني لم أجد دواءً أدوى لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب الإياب وفرحة القفل، فإنها تعقب راحة، وإني لا أريد أن أرى الراحة عندكم، ولا الفرح فيكم".
فإن هذه الخطة مما يحمد للأمويين ولا يُعاب، ومما يتفق مع التوجُّه الإسلامي في هذا الصدد الذي يجعل أتباعه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وهو تحويل بارع لأهم عوامل الضعف في جسد الأمة إلى عوامل قوة واعتزاز لها، ورغم ذلك فينبغي التنبيه إلى أن ذلك العامل كان أكثر ظهورًا في القسم الشرقي من الدولة، وبذلك فهو لا ينطبق على الفتوحات في الجبهة الغربية أو الشمالية.