ظن كثير من الباحثين أن المسلمين في العصر الأموي كانوا يشتاقون إلى البداوة، ويحنون إلى الحفظ والتلقين، يتناقلون به العلوم فلا يكتبون، ولا يدونون ويصنفون، غير أنه يتضح أن الدراسات الحديثة قد أثبتت أن المسلمين آنذاك عرفوا الكتابة وتأليف الكتب وتصنيف العلوم، بل إنهم اهتموا بالترجمة إلى لغتهم، والتفتوا إلى معارف الآخرين ينهلون منها.
كما أثبتت هذه الدراسات أن بني أمية كان لهم نصيب كبير في تشجيع ذلك ورعايته، وضربوا بسهم وافر في النهضة الثقافية والمعرفية للأمة الإسلامية، وأن هذه النهضة لم تكن قاصرة على رواية الشعر أو حفظ الأمثال أو معرفة القرآن والحديث فقط، بل امتدت لتشمل جوانب شتى من العلوم النظرية والطبيعية على السواء.
وفيما يلي نُلقي نظرة فاحصة وسريعة على هذه الجوانب المختلفة ودور الأمويين الثقافي والحضاري في هذه الحقبة من تاريخنا، والذي يُعَدُّ -بحق- واحدًا من مآثرهم الخالدة، وإنجازاتهم العظمى حيث لم يكونوا مجرد حكام أو ساسة، ولم يكونوا محض فاتحين أو غزاة، بل كانوا أيضًا مساهمين بنشاط في بناء الحضارة الثقافية الإسلامية والإنسانية.
نهضة العلوم الشرعية والعربية
شهد العصر الأموي نهضة كبيرة في التفسير وعلوم القرآن والفقه والعقيدة وعلم الكلام، وتألق فيه نجم عديد من العلماء الذين ظلَّ المسلمون بعد ذلك يأخذون من علومهم، ويستشهدون بأقوالهم واجتهاداتهم، وليس ذلك بمستغرب على عصر عاش فيه جماعة من كبار الصحابة والتابعين، وعدد وفير من العلماء على امتداد الدولة الإسلامية المترامية الأطراف آنذاك على اختلاف نواحي نبوغهم وتفوقهم؛ فقد ظهر منهم في التفسير أمثال ابن عباس وتلاميذه كسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر وغيرهم، والضحاك بن مزاحم، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة بن دعامة السدوسي، وغيرهم.
وبلغ الاهتمام بالقرآن وعلومه شأوًا بعيدًا حتى ظهر في عصرهم عدد من أصحاب القراءات القرآنية المشهورين، وكان معظمهم من الموالي، مما يدل على مدى تغلغل الإسلام في نفوس بعضهم، فمنهم عبد الله بن عامر بن زيد اليحبصي (ت 118هـ)، وعاصم بن أبي النجود مولى بني جذيمة (ت 127هـ)، وأبو عمرو بن العلاء (ت 155هـ)، وحمزة بن حبيب الزيات (ت 156هـ)، وقد توفي العالمان الأخيران في العصر العباسي ولكن كان لهما عطاؤهما في العصر الأموي، وفيه كانت جهودهم لتلقي العلم حتى نبغا فيه، وعلى شيوخ ذلك العصر تعلما، وكان لهؤلاء العلماء تلاميذهم ومجالسهم، وكانت لهم أيضًا كتبهم في القراءات مثل كتاب: "اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق" لعبد الله بن عامر، و"المقطوع والموصول" له أيضًا، و"الوقف والابتداء" لأبي عمرو بن العلاء.
وبرز جماعة من الفقهاء مثل: شريح بن الحارث الكندي القاضي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي الذي تولى الكتابة لعبد الملك بن مروان وكان مقربًا منه، وإبراهيم النخعي ومكحول بن أبي مسلم الدمشقي، وحماد بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، وربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي المعروف بربيعة الرأي.
كما ظهر آخرون في علم الكلام والجدل مثل: الحسن البصري الذي تعددت نواحي نبوغه والحسن بن محمد بن الحنيفة وغيلان الدمشقي القدري، وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء إمامي المعتزلة، وجهم بن صفوان رأس الجهمية، بل إنه يروي أن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز كان له جهد في بحث العقائد الإسلامية فألف رسالة في الرد على القدرية.
الاهتمام بالقرآن واللغة
شهد العصر الأموي دخول كثير من الأعاجم في الإسلام تعربهم، مما كان له أثره الواضح على نطقهم اللغة العربية، وانحراف ألسنتهم بها، فاقتضى ذلك عملاً مضاعَفًا للحفاظ على اللغة، وتقويم ألسنة الناطقين الجدد بها، وتيسير اطلاعهم على علوم الإسلام المكتوبة.
وقد رُويَ أن زياد بن أبيه هو الذي أشار على أبي الأسود الدؤلي بوضع بدايات علم النحو، وقيل إن معاوية هو الذي طلب من عامله على العراق ذلك لما دخل عليه أحد أبناء زياد فسمعه يلحن، فأرسل إلى أبيه يلومه، فتفق ذهن زياد عن ضرورة وضع قواعد اللغة العربية، ويبدو أن إعجام المصحف بالنقط والشكل يرجع إلى نفس العصر، فقد ذكر أبو داود السجستاني أن عبيد الله بن زياد والي البصرة كَلَّفَ كاتبه يزيد الفارسي بهذا العمل، ولما ولى الحجاج العراق طلب من عاصم بن أبي النجود وضع النقط المميزة للحروف المتشابهة في القرآن لييسر على قارئيه، وبخاصة من غير العرب، فوضع بذلك أسس الإعجام في العربية، ثم وضع النحوي نصر بن عاصم علامات الأخماس والأعشار في القرآن، فتم بذلك تقسيم كتاب الله إلى أجزاء مختلفة في عصر الحجاج.
وفي هذا المقام لا ينبغي أن ننسى الإشارة إلى تعريب الدواوين، الذي قام به الأمويون وولاتهم في الدفع بالعربية والتعريب إلى آفاق جديدة.
تدوين الحديث والفقه
اشتد حرص الأمويين على تدوين العلوم الإسلامية وبخاصة الحديث الشريف، وقد لاقوا في سبيل ذلك عدة صعوبات نشأت في الأساس من تحرُّج العرب من التدوين واحتمالات الخطأ، أو التحريف في الحديث بما له من أهمية تشريعية قصوى.
وقد بدأ ذلك الاهتمام الأموي بالتدوين وحفظ تراث الإسلام منذ سنين ولايتهم الأولى، فقد كان مروان بن الحكم أثناء ولايته على المدينة في خلافة معاوية حريصًا على العلم وتدوينه خشيةً عليه من الضياع، فقد أراد أن يحفظ معارف مشاهير الصحابة؛ فاستقدم زيد بن ثابت إليه وطرح عليه عددًا من الأسئلة، بينما كان الكُتَّاب الجالسون خلف سترٍ يدونون الإجابات، فلما لحظ زيد ذلك تحرَّج وقال: يا مروان عذرًا إنما أقول برأيي.
وأرسل عبد العزيز بن مروان عندما كان واليًا على مصر إلى التابعي كثير بن مرة الحضرمي (ت 70هـ) راجيًا منه أن ينسخ عن الصحابة أحاديث رسول الله التي لم يروها أبو هريرة ، إذ كانت أحاديث أبي هريرة لديه.
وكانت الدفاتر المدوَّنة عن علم الزهري كثيرة جدًّا في خزانة الوليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز عالمًا مرهف الحس عظيم الوعي، فقد أراد أن يوقف تيار الكذب على الرسول الذي فشا، فرأى أن يسجل الحديث الصحيح من تلك الثروة الهائلة، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري يأمره أن يدون حديث رسول الله قبل أن يدرُس العلم ويفنى العلماء، ويحضه على الجلوس للناس ونشر العلم؛ كيلا يكون سرًّا فيضيع، فقال له: انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي وَلْتُفْشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا.
وقد كتب ابن حزم بعض ذلك ولكن ضاع منه، وتوفي الخليفة ولم يَرَ نِتاجَه، وقد وضع هشام بن عبد الملك من يكتب أخبار الزهري عنه.
تدوين التاريخ والاهتمام به
يشير بعض الباحثين إلى معاوية بن أبي سفيان على أنه كان المؤسس الأول لعلم التاريخ الإسلامي، أو على الأقل كان الراعي الذي عمل على أول تدوين باللغة العربية "للتاريخ" بمعناه العام لا على أنه المغازي النبوية وقصص الأنبياء، ولا على أنه الأنساب وأيام العرب، ولكن على أنه تاريخ الأمم السالفة وسير الملوك والحروب وأنواع السياسات، مما هو جدير بالقراءة على الملوك.
وهذا الحكم يعتمد على مبررات تاريخية حقيقية، فقد روى المسعودي أن معاوية : كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد، فيقرأ ذلك غلمان له مرتبون، وقد وُكِّلُوا بحفظها وقراءتها فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والآثار وأنواع السياسات". وقد استقدم معاوية إلى دمشق أحد علماء اليمن البارزين في التاريخ وهو عبيد بن شرية الذي أَلَّفَ عدة كتب منها "كتاب الملوك وأخبار الماضين"، ولم يكن عبيد هذا هو العالم الوحيد الذي استقدمه معاوية إلى دمشق فكتب عنه روايات وصيرها كتبًا، بل إن كثيرًا من الإخباريين أهل الدراية بأخبار الماضين وسِيَر الغابرين من العرب، وغيرهم من المتقدمين وفدوا على معاوية أيضًا.
ولا يستطيع المقام حصر كل العلماء والمؤلفات التي كُتبت في العلوم الشرعية في العهد الأموي، وما ذلك إلا دليل على الصحوة العلمية الشرعية التي علت في ذلك العصر؛ رغبة في فهم النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة النبي .