لقد اهتم الخلفاء والولاة على مَرِّ العصور بالمحافظة على كيان الأسرة، ورفع مستواها المادي والمعنوي؛ فقد كتب الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى ولاته يبينُ لهم ما يحتاجه كل رب أسرة فقال: "لا بد للرجل من المسلمين من مسكن يُؤوي إليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته"، وكان زياد بن أبيه الوالي الأموي يجلس ليفصل في الخصومات بين الأزواج.
مركز المرأة في الأسرة والمجتمع
كانت المرأة المسلمة ذات مركز اجتماعي ممتاز في الأسرة خاصة وفي المجتمع الإسلامي عامة، وقد تمتعت المرأة بكثير من المميزات الاقتصادية التي أدت إلى رقي مستواها الاجتماعي؛ فقد كان للنساء خلال الفتوحات الإسلامية نصيب من الفيء والغنائم، وأعفيت المرأة غير المسلمة من دفع الجزية، وإذا ملكت امرأةٌ أرض خراج فإنها لا تدفع عنها سوى الخراج، وكانت النساء يمارسن كثيرًا من أنواع النشاط الاقتصادي.
وقد برزت في الخلافة الإسلامية في العصر الأموي عدة نساء كان لهنَّ مركز اجتماعي ممتاز في مقدمتهنَّ السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- زوجة الرسول الكريم ، فقد اشتهرت بتفوقها في الفقه ورواية الحديث والفتيا والأدب والتاريخ والنسب، كما اشتُهِرَت أختها السيدة أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام برواية الحديث والشجاعة والكرم. ومن شهيرات النساء أيضًا في ذلك العصر السيدة سُكينة بنت الحسين بن علي، وعائشة بنت طلحة، وهند بنت أسماء بن خارجة.
واشتهرت بعض النّساء بالزهد والتصوف بجانب الصلاح والتقوى مثل رابعة العدوية، ومعاذة العدوية، وبعض نساء الخوارج كالبجاء وغزالة وقطام وحمادة كحيلة.
وبرزت بعض النساء في ميادين السياسية، منهن أم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك وقد اشتُهِرَتْ بالفصاحة والبلاغة وقوة الحجة وبُعد النظر، وكان لها مكانة ملحوظة في قصر الخليفة الوليد الذي كان يستشيرها في أمور الدولة المهمة.
وكانت نساء الخوارج أبرز النساء في العصر الإسلامي، فقد كُُنَّ يخرجن مع رجالهن فيتلقين ويلات الحرب إلى جانبهم في الميدان بصورة تبعث على الدهشة والتعجب، ففي عهد الحجاج بن يوسف ثار عليه شبيب بن يزيد الشيباني، وكانت زوجته غزالة وأمه جهيرة تحاربان معه جنبا إلى جنب، وقد نذرت غزالة أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين، وتقرأ فيهما سورة آل عمران؛ فجاهدت حتى تحقق لها ما نذرت، وهرب الحجاج أمام الخوارج في إحدى الحروب؛ فسخر أهل العراق منه وقالوا:
هلا برزت إلى غزالة في الوغى *** بل كان قلبك في جناحي طائر
تقاليد الزواج
كانت تقاليد الزواج في المجتمع الإسلامي تدلُّ على مركز المرأة الاجتماعي الممتاز، ولم يكن تعدد الزوجات عيبًا كبيرًا، بل كان أمرًا محببًا عاديًا، كما لم يكن زواج المرأة بعدة أزواج على التوالي غريبًا، فبين النساء المسلمات من تزوجت أربعة أو خمسة أزواج على التوالي.
وقد كانت مراسم الزواج في المجتمع الإسلامي متقيدة بما شرعه الله ورسوله؛ إذ كانت تبدأ بالخطبة، وكانت هناك نسوة تخصصن في التوفيق بين الرجال والنساء وهن ما نسميهن في وقتنا الحاضر: "الخاطبات" وكن يجلسن غالبًا في المساجد، وبعد مرحلة الخطبة تبدأ مرحلة دفع الصداق، وقد اختلف قدره بحسب حالة الزوجين الاجتماعية، وكان العربُ يدفعون الصداق نقدًا وعينًا، ولكن معظم المسلمين من الأجناس الأخرى كانوا يدفعون الصداق نقدًا ويقدمون بعض الهدايا عينًا، وكانت عبارة "ساق إلى المرأة صداقها" ترجع إلى وقت أن كان المسلمون يدفعون الصداق من الإبل، واحتفظ العرب في العصر الأموي بهذه العادة، فإن الفرزدق مَهَرَ النوّار بمائة ناقة حمراء ودفع مصعب بن الزبير لسكينة بنت الحسين خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثله، ودفع عمر بن عبيد الله لعائشة بنت طلحة مليون درهم نصفهم صداقا والنصف الآخر هدية لها، وبعث الحجاج بن يوسف إلى عروسه هند بنت أسماء بمائة ألف درهم وثيابًا كثيرة.
وكان الزواج أحيانًا لأغراض سياسية، فكان يُقصد من بعض عقود الزواج ربط القبائل العربية بعضها ببعض؛ فقد حرص الحجاج بن يوسف على الزواج من اليمن ومضر، وزوَّج الحجاج ابنه محمدًا من ميمونة بنت محمد بن الأشعث بن قيس الكندي رغبة في شرفها، مع ما كانت عليه من جمال وفضل في جميع حالاته، وأراد من ذلك استمالة جميع أهلها وقومها إلى مصافاته ليكونوا له يدًا على من ناوأه.
لقد اتبع المسلمون في العصر الأموي كتاب الله وسُنة رسوله من زواجهم فما غالوا في تقدير المهور، ولا طلبوا من الزوج شروطًا قاسية ما دام الزوج صحيح البدن عفيفًا نزيهًا، وكانوا يعتقدون أن المتزوج أسعدُ بالاً وأهنأ عيشا من غير المتزوج.
أما الشروط التي كان المسلم يطلب توفرها في زوجته، فكانت تبعًا للعرف السائد، ومن المسلمين من كان يشترط شروطًا محددة، وهو الأمر الذي نراه في عبارة لخالد بن صفوان أحد وجوه الناس في العصر الأموي؛ فقد قال: "اطلب لي زوجة أدَّبها الغِنى وذلَّلها الفقرُ، لا ضرعة صغيرة ولا عجوزًا كبيرة، قد عاشت في نعمة، لها عقلٌ وافر، وخلق طاهر، وجمال ظاهر، كريمة المحتِد، لم يدخلها صلف".
وكانت أميرات البيت الأموي خاضعات لجميع الأحكام الإسلامية فهي عرضة للطلاق، ولاحتمال الضرائر، فقد خطب محمد بن الوليد بن عقبة إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فقال عمر: "...وقد زوجناك على ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"؛ مما يدلل على بساطة المجتمع، وتقيده بما سن الإسلام وشرعه.
حفلات الزواج
كان الزواج عند العرب يومان: يوم الإملاك وهو يوم العقد، وفيه يجتمع ذوو الفتاة في ساحة دارهم، ويقدم أقارب الفتى، وإذا التأم جمعهم خطبهم ولي الفتى خطبة رقيقة، ثم يرد عليه ولي الفتاة في خطبة قصيرة يضمنها الرضا ثم تنحر الجزر، وتُمَدُّ الموائد، ويُسمع الغناء من مجالس النساء وتُسمَّى وليمة ذلك اليوم النقيعة، واليوم الثاني يوم الغناء وفيه يتبارى العرب في الاحتفال؛ فيلعب الفتيان بالرماح، ويتسابقون على الخيل، ويبسطون الأنماط في الدار، ويشدونها على الجدران، ويجلس الناس على النمارق، وتُجَلَّى الفتاة وتلبس الحلق، ثم تسير في حشد من أترابه، ثم تنشد النساء فتشيد بمأثر آبائها ومحامد قومها، وإذا انقضى ذلك الحفل أخذ النساء في الانصراف وودعن الفتاة بقولهن: باليُمنِ والبركة، وعلى خير طائر.
وحرصت النساء على التجمل بوسائل الزينة المختلفة فكانت النساء تحرص على تقعيص شعورهن، وكن يدهن أيديهن في الشتاء بدهن يسمى "دهن البان"، ويستعملنه طوال السنة في ملابسهن وخُمُرِهنَّ، ونصح أسماء بن خارجة ابنته هند عندما زوجها الحجاج فقال: فعليك بأطيب الطِّيب الماء، وأحسن الحُسن الكُحل، وكان المحتسب يعاقب النساء اللاتي يصبغن شعورهن بالخضاب، ولا يمنعهن من الخضاب بالحناء، كذلك حرصت النساء على التحلي بأجمل الحُلي والمجوهرات المصنوعة من الذهب والفضة وسائر الأحجار الكريمة.
الجواري في البيت المسلم
لقد كانت فتوح المسلمين سببًا في وقوع كثير من بنات الأمصار المفتوحة الأحرار في أيدي الفاتحين المسلمين، ووُزِّعت الجواري كغنائم على المحاربين، ولما انتهت الفتوحات كان المسلمون يشترون عددًا كبيرًا من الجواري من أسواق النخاسة المنتشرة في جميع الأمصار، وكانت فتوحات الوليد بن عبد الملك شرقًا في بلاد ما وراء النهر الهند وغربًا في المغرب والأندلس مصدرًا مهمًّا لاستجلاب الجواري، وكان هؤلاء الجواري يردن على الولاة فيفرقونهن في وجوه الناس، وكان المسلمون يكرمون جواريهم فكان يزيد بن المهلب -مثلاً- والي العراق "يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل"، وقد تفرع عن نظام الجواري نظام التسري وهو اقتناء الجواري للتمتع بهن أو استيلادهن.
وحتى لا يُتهم الإسلام والفاتحون الأولون بالشهوة الجانحة، والفتوحات التي كانت بغية الغنائم والجواري، فإن المسلمين الأولين لم يكن أول من اقتنى السراري، فهذه العادة كانت شائعة عند الرومان قبلهم، وقد زادت رغبة المسلمين في التّسري عند انتشار الحضارة حتى أصبح أكثر أبناء الخلفاء من أولاد الجواري، والاستكثار من الجواري في فجر العصر العربي الإسلامي لم يكن يحتاج إلى نفقة كبيرة لكثرة السبايا، فلما استقرت الفتوح وعظم التمدن صاروا يبتاعونهن ويغالون في دفع أثمانهن.
الطعام
كان طعام المسلمين خلال حكم الخلفاء الراشدين وبداية العصر الأموي بسيطا محدودا، يكاد ينحصر في اللحوم والثريد بجانب ما اعتادوا عليه في شبه الجزيرة العربية من تمور وألبان، وأظهر العرب عند الفتوحات جهلهم بألوان الطعام الفارسية والرومانية، فقد وجدوا في خزائن كسرى بعض الكافور؛ فحسبوه ملحًا ووضعوه في خبزهم، وظنوا الخبز المرقع رقع ثياب، ولكن بتوسع الفتوح، واستقرار الأمور، زادت الثروة، وعمَّ الترف بين الناس؛ فبدأ المسلمون يتأنقون في طعامهم وشرابهم ولباسهم، وقلدوا الفرس والرومان في أكثر أسباب الترف والحضارة.
ولم تكد أعوام تمضي على ظهور الخلافة الأموية حتى زاد اتصال المسلمين بغيرهم من الأمم؛ فعرفوا كثيرًا من ألوان الطعام وأدواته، فتفنن المسلمون في معالجة اللحوم واصطناع التوابل المنبهة للشهية؛ فكانوا يغطون اللحوم والثريد بطبقة من الفلفل، وكان المسلمون لا يعرفون الفلفل قبل فتح فارس، وتعلموا -كذلك- من الفرس الكوز والجرة والإبريق والطشت والخوان، والكعك والفالوذج واللويزنج والزنجبيل والقرفة والجوز واللوز.
وحرص المسلمون على تقليد الفرس في طعامهم وولائمهم، فقد أراد الحجاج بن يوسف أن يولم وليمة احتفالية بختان ولد له؛ فاستحضر بعض الدهاقين ليسألهم عن ولائم الفرس. كما عرف المسلمون كثيرًا من أدوات المائدة فبعد أن كان المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين يأكلون بأيديهم، تعلموا من الفرس استعمال الفوط والملاعق، وكانت الملاعق تصنع من الخشب غالبًا كما جلبوا من الصين بعض الملاعق الفخار والخزف، وكانوا يجلسون على الكرسي أمام المائدة التي يغطونها بمفرش من القماش، وكان الطعام يقدم إليهم في صِحَاف توضع على جلود مغطاة بالقماش، ومن أشهر الأطعمة في الشام في العصر الأموي الفول النبوت بالزيت ويباع مع الزيتون، والترمس المملَّح، والزلابية وتصنع من العجين، والناطف ويصنع من الخرنوب، ولم تكن الخضر مستعملة على نطاق واسع كما هو الحال الآن.
هذه هي بعض العادات والتقاليد التي سجلتها كتب التاريخ عن هذه الفترة من الخلافة الأموية، حيث التقيد بأحكام التشريع الحنيف، والبساطة في المأكل والملبس، وهي عادات تشبه إلى حد كبير ما كان في عهد الخلفاء الراشدين.