دور جديد للدولة العباسية
يبتدئ هذا الدور من سنة 334هـ حتى سنة 447هـ، تولى فيه الخلافة خمسة خلفاء أوَّلهم:
خلافة المستكفي أبي القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد
(من صفر 333هـ حتى خلع في جمادى الآخرة 334هـ)
ويرتبط هذا الدور بتاريخ آل بويه الديلميين، الذين كانوا أصحاب النفوذ الحقيقي والسلطان الفعلي في العراق.
استيلاء البويهيين على عاصمة الخلافة
استيلاء البويهيين على عاصمة الخلافةبلاد الديلم تقع في الجنوب الغربي من شاطئ بحر الخزر.. كانت في القديم إحدى الولايات الفارسية، إلا أن أهلها لم يكونوا من العنصر الفارسي، بل عنصر ممتاز يطلق عليه اسم الديالمة أو الجيل.
فتحت بلاد الديلم في عهد عمر بن الخطاب، وخضعت للحكم الإسلامي مع بقائهم على وثنيتهم.. وكانت تجاورهم بلاد طبرستان وأكثر أهلها دانوا بالإسلام، وكان بين الديالمة والطبريين سلم وموادعة.
واستمر الحال على ذلك بعد قيام الدولة العباسية، فلا الديالمة تحدثهم أنفسهم بالخروج إلى بلاد المسلمين، ولا المسلمون يحدثون أنفسهم بالتوغل إلى بلادهم، حتى عهد المستعين الذي أرسل محمد بن طاهر ليحكم تلك البلاد -كان ذلك سنة 250هـ- ولكن أهل طبرستان امتنعوا وأعلنوا العصيان لمحمد بن طاهر، وجعلوا عليهم الحسن بن زيد (الدولة الزيدية)، وطلبوا من الديلم أن يساعدوهم على عمال ابن طاهر ففعلوا.
وظل الحسن يحكم مدن طبرستان ثم الري وجرجان حتى مات سنة 271هـ، ثم تولى أخوه محمد بن زيد وكانت مدته مضطربة حتى قتل سنة 287هـ، وكان وجود الحسن ومحمد من أسباب شيوع الإسلام في أهل الديلم.
ثم دخل بلاد الديلم الحسن بن علي الملقب بالأطروش سنة 301هـ وأقام بينهم 13سنة يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم منهم خلق كثيرون واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم المساجد.. ولكن إسلامهم ملتبس بتشيع.. ثم بعد فترة استطاع الأطروش بمساعدة الديلم أن يستولي على طبرستان وجرجان من السامانيين.. ثم توفي الأطروش سنة 304هـ. وتطورت الأحوال بمرور الأيام حتى سنة 323هـ، صارت القوى الكبرى بهذه البلاد على النحو التالي:
قوة على بن بويه بفارس والري.
وقوة السامانيين بخراسان وما وراء النهر.
وكان بنو بويه ثلاثة هم: علي والحسن وأحمد، فلما ضعف سلطان الخليفة خطر ببال عليِّ بن بويه أن يرسل أخاه الأصغر أحمد ليمد سلطانه إلى الأهواز والعراق.
واستطاع أحمد أن يسيطر على الأهواز بعد حروب بينه وبين بجكم الرائقي، وانهزم بجكم وفر إلى واسط.
دولة البويهيينوكاتب قواد بغداد أحمد بن بويه يطلبون إليه المسير نحوهم للاستيلاء على بغداد فوصلها في 11 من جمادى الأولى سنة 334هـ، والخليفة هو المستكفي بالله، فقابله واحتفى به وبايعه أحمد، وحلف كل منهما لصاحبه، هذا بالخلافة وذاك بالسلطنة، وفي هذا اليوم شرّف الخليفة بني بويه بالألقاب:
فلقب عليًّا صاحب بلاد فارس (عماد الدولة).
والحسن صاحب الري والجبل (ركن الدولة).
ولقب أحمد صاحب العراق (معز الدولة).
وأمر أن تضرب ألقابهم وكُناهم على النقود.
وهذا اليوم هو تاريخ الدور الثاني للخلافة العباسية وهو تاريخ سقوط السلطان الحقيقي من أيديهم، وصيرورة الخليفة منهم رئيسًا دينيًّا لا أمر له ولا نهى ولا وزير، وإنما له كاتب يدبر إقطاعياته وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من يشاء.
خطر ببال معز الدولة أن يزيل اسم الخلافة أيضًا عن بني العباس ويوليها علويًّا؛ لأن معز الدولة كان من قوم انتشرت فيهم تعاليم الشيعة الزيدية كما رأينا، فكانوا يعتقدون أن بني العباس قد غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها، ولكن بعض خواصه أشار عليه ألاَّ يفعل وقال له:
إنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ومتى قتلته أجلست بعض العلويين خليفة اعتقدت أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوا. فأعرض عما كان قد عزم عليه.
ما وصلت إليه الأمة الإسلامية في ذلك الوقت
- الأندلس يحكمها عبد الرحمن الناصر أمير المؤمنين.
- بلاد إفريقية ويحكمها الفاطميون.
- أقصى المغرب ويحكمها الأدارسة والقائم بالأمر منهم إسماعيل المنصور، وهو ثاني خلفائهم ويلقب بأمير المؤمنين.
- مصر والشام ويحكمها الإخشيديون، ويخطبون باسم الخليفة العباسي.
- حلب والثغور لسيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان الشيباني، ويخطبون باسم الخليفة العباسي.
- الجزيرة الفراتية لناصر الدولة الحسن بن علي بن عبد الله بن حمدان، ويخطب باسم الخليفة العباسي.
- العراق للديلم والسلطان منهم معز الدولة أحمد بن بويه، ويخطب على منابره باسم الخليفة العباسي ثم باسم معز الدولة من بعده.
- عمان واليمن والبحرين وبادية البصرة للقرامطة، ويخطبون باسم المهدي الفاطمي.
- فارس والأهواز لعليِّ بن بويه الملقب بعماد الدولة، ويخطب باسم الخليفة العباسي، وكان يلقب بأمير الأمراء؛ لأنه أكبر بني بويه.
- الجبل والري لحسن بن بويه الملقب ركن الدولة، ويخطب باسم الخليفة العباسي، وجرجان وطبرستان عليها نزاع بين آل سامان وركن الدولة.
- خراسان وما وراء النهر لآل سامان، ومقر ملكهم مدينة بخارى، ويخطبون للخليفة العباسي.
هذه هي المدن الكبرى التي كانت لأسر مملوكة في الرقعة الإسلامية، فقد تفرق هذا الملك الواسع تفرقًا غريبًا بعد أن كان متماسك الأعضاء، ويرجع كله إلى خلافة واحدة كبرى تجمع شتاته.
وقفة
ومما يستحق النظر أن العنصر العربي لم يبق له شيء من الملك، إلا ما كان لناصر الدولة وأخيه سيف الدولة من آل حمدان فإنهما من عنصر عربي، ومع هذا فقد كان النفوذ والسلطان فيما يليانه من البلاد لقواد من الأتراك ولم يكن لهما استقلال سياسي، بل كان أمر بني بويه فوقهما، وكانا يذكران اسم معز الدولة في الخطبة بعد ذكر الخليفة العباسي.
خلع المستكفي
لم يمكث المستكفي في الخلافة بعد استيلاء معز الدولة إلا أربعين يومًا وخُلِع؛ لأن معز الدولة اتهمه بالتدبير عليهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة 334هـ.