قال الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري رحمه الله : الحمد لله الكريم الوهاب ، هازم الأحزاب ، ومفتح الأبواب ، ومنشئ السحاب ، ومرسي الهضاب ، ومنزل الكتاب ، في حوادث مختلفة الأسباب . أنزله مفرقا نجوما وأودعه أحكاما وعلوما قال عز من قائل : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) .
أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن محمد الأصفهاني ، ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن حيان ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، حدثنا سهل بن عثمان العسكري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا أبو رجاء قال : سمعت الحسن يقول في قوله تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة ، أنزل عليه بمكة ثماني سنين قبل أن يهاجر وبالمدينة عشر سنين .
أخبرنا أحمد ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا أبو يحيى الرازي ، حدثنا سهل ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، عن هشيم عن داود ، عن الشعبي قال : فرق الله تنزيله ، فكان بين أوله وآخره عشرون أو نحو من عشرين سنة . أنزله قرآنا عظيما ، وذكرا حكيما ، وحبلا ممدودا ، وعهدا معهودا ، وظلا عميما ، وصراطا مستقيما ، فيه معجزات باهرة ، وآيات ظاهرة ، وحجج صادقة ، ودلالات ناطقة ، أدحض به حجج المبطلين ، ورد به كيد الكائدين ، وقوي به الإسلام والدين ، فلحب منهاجه ، وثقب سراجه ، وشملت بركته ، وبلغت حكمته - على خاتم الرسالة ، والصادع بالدلالة ، الهادي للأمة ، الكاشف للغمة ، الناطق بالحكمة ، المبعوث بالرحمة ، فرفع أعلام الحق ، وأحيا معالم الصدق ، ودمغ الكذب ومحا آثاره ، وقمع الشرك وهدم مناره ، ولم يزل يعارض ببيناته [ أباطيل ] المشركين حتى مهد الدين ، وأبطل شبه الملحدين . صلى الله عليه صلاة لا ينتهي أمدها ، ولا ينقطع مددها ، وعلى آله وأصحابه الذين هداهم وطهرهم ، وبصحبته خصهم وآثرهم ، وسلم كثيرا .
وبعد هذا ، فإن علوم القرآن غزيرة ، وضروبها جمة كثيرة ، يقصر عنها القول وإن كان بالغا ، ويتقلص عنها ذيله وإن كان سابغا ، وقد سبقت لي - ولله الحمد - مجموعات تشتمل على أكثرها ، وتنطوي على غررها ، وفيها لمن رام الوقوف عليها مقنع وبلاغ ، وعما عداها من جميع المصنفات غنية وفراغ ؛ لاشتمالها على عظمها متحققا وتأديته إلى متأمله متسقا . غير أن الرغبات اليوم عن علوم القرآن صادفة كاذبة فيها ، قد عجزت قوى الملام عن تلافيها ، فآل الأمر بنا إلى إفادة المبتدئين بعلوم الكتاب ، إبانة ما أنزل فيه من الأسباب . إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها ، وأولى ما تصرف العناية إليها ؛ لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها ، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها .
ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب ، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ، ووقفوا على الأسباب ، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب . وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار ، في هذا العلم بالنار .
أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ ، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن حامد العطار ، حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ، حدثنا ليث بن حماد حدثنا أبو عوانة ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا الحديث [ عني ] إلا ما علمتم ؛ فإنه من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار "
والسلف الماضون ، رحمهم الله كانوا في أبعد الغاية احترازا عن القول في نزول الآية .
أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبيد الله المخلدي ، أخبرنا أبو عمرو بن نجيد أخبرنا أبو مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن حماد ، حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال : اتق الله وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن .
وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا . ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب [ نزول ] الآية . وذلك الذي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب ، الجامع للأسباب ؛ لينتهي إليه طالبوا هذا الشأن والمتكلمون في نزول [ هذا ] القرآن : فيعرفوا الصدق ، ويستغنوا عن التمويه والكذب ، ويجدوا في تحفظه بعد السماع والطلب .
ولا بد من القول أولا في مبادئ الوحي ، وكيفية نزول القرآن ابتداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعهد جبريل إياه بالتنزيل ، والكشف عن تلك الأحوال ، والقول فيها على طريق الإجمال .
ثم نفرغ للقول مفصلا في سبب نزول كل آية روي لها سبب مقول ، مروي منقول . والله تعالى الموفق للصواب والسدد ، والآخذ بنا عن العاثور إلى الجدد .