حافظت الدولة الإسلامية في العصر الأموي على أن تظل أُمَّةً مجاهدة؛ فأبقت القسم الأكبر من مواردها المالية يُصرف في المجال العسكري. وإضافةً إلى إخراج الرواتب للجند، والأرزاق للذرية، والمعونة للمقاتلة عملت الدولة على توفير وسائل القوة ووجوه المنعة للجيش؛ فأقامت المدن العسكرية في جميع جبهات القتال، وعبأتها بالجنود وشجعت الناس على الانتقال إليها والإقامة به، وأقطعتهم الأراضي الزراعية يستغلونها، والمنازل يسكنونها، ووفرت بها الطعام ومخازن الأسلحة والكسوة وحَصَّنتها بالأسوار والخنادق وبَنَتِ القلاعَ والحصونَ وأقامتِ المناظرَ والمنارات على طول الطريق بين الثغور والداخل، وجعلت المواقد عليها لتكون أخبار الثغور حاضرة على الدوام عندها.
وقد تحول كثير من هذه المدن العسكرية إلى مراكز مدنية حافلة بالبناء وأماكن العبادة ومراكز الثقافة وأسواق التجارة، وأخذت تشهد نهضة طيبة في الوجوه المختلفة من النشاط البشري.
كما عززت الدولة القوة العسكرية بإنشاء سلاح البحرية، وأقامت دور صناعة السفن في عكا ثم من بعدها في صُور من بلاد الشام، وفي جزيرة الروضة والفسطاط من بلاد مصر، وفي تونس، وزُوِّدَتْ هذه المصانع بما يلزم من المواد والصناع.
ولم تغفل الدولة أن تأخذ الجيش بالتدريبات وإقامة العروض، وفي حال القيام بالغزو، كانت تعطي الجنود أعطياتهم كتلاً، وتأخذهم بالخيول الروائع والسلاح الكامل، وتوعب فيه أهل الجدة والصبر والشجاعة، وتجعل القيادة إلى أهل الخبرة والرأي والبأس والشجاعة والفضل والدين.
لقد امتدت الفتوحات الإسلامية على يد الأمويين إلى آفاق لم يعرفها عصر الراشدين، حيث شملت دولة الإسلام ما بين الصين شرقًا وبلاد الأندلس وجنوبي فرنسا غربًا... وطرقت أبواب القسطنطينية، وضيَّقت عليها الخناق، وحاصرتها ثلاث مرات، وتحول بحر الروم إلى بحيرة إسلامية، ونشرت أعلام الإسلام في القارات الثلاث المعروفات آنذاك آسيا وإفريقيا وأوربا، ودخلت أعداد غفيرة من البشر بذلك في دين الله، وأصبحت لغة العرب في أوج قوتها وثرائها، وأضحت لسانًا لكثيرٍ من سكان هذه البلاد، وتحققت ألوان فذة من البطولة والتضحية، وطلب الشهادة في سبيل الله خلَّفت ذكرياتٍ مجيدة، ظلت غذاء ومددًا على امتداد التاريخ وتوالي الأجيال حتى اليوم، ولا تزال مسامع الدنيا تعي أسماء مثل المهلب بن أبى صفرة ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم الثقفي وموسى بن نصير وطارق بن زياد ومسلمة بن عبد الملك... وغيرهم.
ولا ريب أن هذه الصفحات من صفحات الفَخَار للأمويين قد أثارت إعجاب الكثيرين من المؤرخين المنصفين والمتحاملين على الأمويين على السواء، فقال الحافظ ابن كثير: "فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية، ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبًا. لا يتوجه المسلمون إلى قُطْرٍ من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه".
ويعترف جورجي زيدان -أحد المتحاملين على بني أمية- بذلك: "ولم يبلغ العرب من الغزو والسؤدد ما بلغوا إليه في أيام هذه الدولة، وقد تكاثروا في عهدها، وانتشروا في ممالك الأرض".
ولم يكن تحقيق هذه الانتصارات الرائعة أمرًا سهلاً، أو عملاً يسيرًا؛ فقد استمر الأمويون يحاربون الروم والبربر في شمالي إفريقيا -مثلاً- نَيِّفًا وأربعين سنة حتى تمكنوا أخيرًا من إخضاعهم وإتمام الفتح، وعلى الجبهة الشمالية كان القتال في اتجاه القسطنطينية مكلفًا وباهظًا ومتواصلاً تقريبًا عبر الصوائف والشواتي، وفي ظروف جغرافية، ومناخية عسيرة.
أما في الجبهة الشرقية في بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر وبلاد السند وعلى ما يرى فلهوزن؛ فإن "الحروب في تلك البلاد لم تكن بالأمر اليسير عليهم فقد كانوا أول الأمر قلة في العدد، ولم يكن سلاحهم كافيًا، وكان بُعْدُ المسافات وصعوبة الأرض وظروف المناخ كلها مصدرًا لعقبات كثيرة قامت في سبيلهم، وكان لا بد لهم أن يحملوا معهم المؤن والملابس التي تقيهم البرد، ولم يكونوا يستطيعون الخروج إلى الغزو إلا في الفصل المناسب لذلك من العام، ولم يكن أعداؤهم بالذين يُستَهانُ بهم، وكان المسلمون إذا حاصروا مدينة جاءت لنجدتها في معظم الأحيان جيوش جرارة".
أمويون مجاهدون بأنفسهم
كان الأمويون أنفسهم يصطلون بنيران هذا الجهاد، ويقدمون بأنفسهم القدوة والمثل في التضحية وقيادة الجيوش ومصادمة الأعداء، فقد أرسل معاوية ابنه يزيد على رأس جيش لحصار القسطنطينية، وأرسل عبد الملك ابنه الوليد مراتٍ للغزو في بلاد الروم، وكان ابنه الثاني مسلمة قائد جبهة الروم، وغزواته أكثر من أن تُعد، وحصاره مدينة الروم القسطنطينية معروف ومشهور، وكان أخوه محمد بن مروان أمير الجزيرة يتولى الغزو في أغلب الأحيان، وأولاد الوليد بن عبد الملك وهم العباس وعبد العزيز وعمر ومروان يقودون الغزو في بلاد الروم، ويساعدون عمهم مسلمة بن عبد الملك في ذلك.
كما أن سليمان بن عبد الملك كان ابنه داود على رأس قواته المجاهدة في بلاد الروم، وأما هشام بن عبد الملك فقد كان يفرض الغزو على بني مروان جميعًا، ومن يتأخر عن الغزو يمنع عنه العطاء، وكان أولاده في مقدمة الغزاة، ومنهم معاوية وسليمان ومسلمة وسعيد وغيرهم، أما مروان بن محمد فكان بنفسه يقود الجيوش، ويصبر في القتال صبرًا شديدًا حتى لُقِّبَ بالحمار.